هَلْ تَعْرِفُنِي؟
سَأَلْتُ الظِّلَّ عِندَ حَافَّةِ الجِدَارِ القَدِيمِ:
هَلْ مَرَّ مِنْ هُنَا؟
فَاهْتَزَّ الغُبَارُ كَأَنَّهُ يُهَمْهِمُ:
رُبَّمَا كَانَ يَسِيرُ بِخِفَّةِ النَّوَى،
وَيَتْرُكُ خَلْفَهُ رَائِحَةَ الغِيَابِ…
لَمْ يُجِبْنِي النَّخْلُ الَّذِي كَانَ
يَحْنِي رَأْسَهُ كُلَّ صَبَاحٍ نَحْوَ البَحْرِ،
كَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ رِسَالَةً مِنْكَ
فِي زُجَاجَةٍ لَمْ تَصِلْ بَعْدُ…
قَالَ لِي السُّورُ:
مَا زِلْتُ أَحْفَظُ وَقْعَ خُطَاكُمَا،
وَلَكِنَّ أَحَدَكُمَا لَمْ يَعُدْ…
أَتَعْرِفُنِي؟
كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُشْبِهُنِي،
يَحْمِلُ دَفْتَرًا وَكَلِمَة،
وَيَخَافُ مِنَ اللَّيْلِ إِذَا تَأَخَّرْتَ.
ضَاعَ فِي الزِّحَامِ، وَلَمْ أَعُدْ أَرَاهُ،
كُلَّمَا نَادَيْتُهُ،
أَجَابَنِي مِنْ دَاخِلِي بِصَوْتٍ بَعِيدٍ:
“لَمْ نَفْتَرِقْ،
وَلَكِنَّنَا لَنْ نَلْتَقِي أَبَدًا…”
فِي السُّوقِ،
عِنْدَ بَائِعِ العُطُورِ القَدِيمِ،
ظَنَنْتُكَ تَمُرُّ…
صَوْتُكَ، رُبَّمَا؟
أَمْ هُوَ الحَنِينُ وَقَدْ تَعَلَّقَ
بِظِلٍّ يُشْبِهُكَ؟
كُلُّ شَيْءٍ يُشْبِهُكَ:
رَائِحَةُ القَهْوَةِ،
نَقْشُ الجِلْدِ،
صَدَفَةٌ عَلَى الطَّاوِلَةِ،
حَتَّى الغِيَابُ حِينَ يَشْتَدُّ…
يُشْبِهُكَ.
أَتَعْرِفُنِي؟
كُنْتُ هُنَا مُنْذُ البِدْءِ،
أَحْمِلُ وَجْهِي وَوَجْهَكَ فِي المِرْآةِ ذَاتِهَا،
لَكِنَّنِي لَمْ أَعُدْ أَعْرِفْ:
مَنْ فِينَا الرَّحِيلُ؟
وَمَنْ فِينَا الوَطَنُ؟
قُلْتُ لِلرِّيحِ: خُذِينِي نَحْوَهُ،
فَقَالَتْ: هُوَ الَّذِي يَسِيرُ عَكْسَكْ.
قُلْتُ لِلبَحْرِ: هَلْ خَبَّأْتَهُ فِي صَدَفَاتِكَ؟
فَبَكَى…
وَبَقِيتُ أُرَاقِبُ هُدْهُدَ الحُلْمِ،
يَطِيرُ دُونَ رِسَالَة.
هَلْ تَعْرِفُنِي؟
كُنْتَ أَنْتَ كُلَّمَا نَسِيتَ،
وَكُنْتُ أَنَا…
كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ.