الفصل الثالث والعشرون
يتجمع الجيران على صرخات نور، ولحسن حظها كان المصليين يخرجون وقتها من المسجد وكان أحمد معهم فمنزل نور في أخر الشارع بجوار المسجد الذي أعتاد أحمد الصلاة فيه، ورغم أن هذه المنطقة يكثر فيها الفيلات والمباني الشاهقة وفي البداية كانت منطقة هادئة جدا، الآن لم تخلو من العشوائيات؛ فبعض الناس وضعوا أيديهم على أراضي الدولة وقاموا بالبناء عليها دون حق، ومنهم من دفع غرامات للدولة أو له قضايا، فبدأ يظهر غرباء بالمنطقة وزادت الحوادث من سرقة وخطف .اتّجه الجميع نحو منزل نور- كان المنزل طابق واحد بناه جدها رحمه الله-، عندما وجدت نور أحمد ارتمت بحضنه وهي ترتجف وتبكي بشّدةٍ، جذب الشباب السارقين للخارج وتم تسلميهم للشرطة، ثم صمم أحمد أن تجمع نور ملابسها وأشيائها وتذهب معه حالا للفيلا ودون نقاش منها، لم تستطيع نور الرفض جمعت بعض الأشياء الهامة وهي تبكي وذهبت مع أحمد. في الفيلا دخلت نور وهي حزينة باكية، فعزة نفسها تمنعها من أن تظهر فقيرة وبائسة، ينادي أحمد على زهرة فتنزل مسرعة تجد نور أمامها، تنظر بتعجب؛ يخبرها والدها ما حدث هناك وبقراره أن نور من اليّوم ستظّل معها هنا ويطلب منها أن تأخذ نور معها لغرفتها تضم زهرة نور وتواسيها وتحمد الله علي سلامتها، وتفرح بقرار والدها فقد كانت أمنيتها أن توافق نور وتعيش معها، لكن نور ظلت عابسة ولم تنم أبدا. في الصّباح يجهز أحمد الإفطار، وينادي على زهرة، بينما نور ترفض أن تنزل معها، متحججة أنّها لم تنم وستنام بعض ساعات، وافقت زهرة وتركتها على راحتها. ظلّت نور طوال اليّوم بالسّرير مدعية النوم، ليس نومًا ولكن هروبا من واقع ترفضه، فهي تتألم لحاجتها وفقرها وتنعي حظها العسر. بالأمس تمنت أن تأتي إلى هنا سيدة للبيت وزوجة لأحمد الّذي شغل بالها وقلبها واليوم تأتي مشردة ذليلة وعالة عليهم وكأنّهم يتصدقون عليها. نعم يحسنون معاملتها وزهرة تعاملها كأخت وهو ينظر لها كابنة له، لكنّه شعور مؤلم يمزق كرامتها وكبريائها تتمنى الموت على هذا الألم، كيف تواجهه بحبها! كيف وهو لا يراها غير فتاة تحتاج عطفه! الهواجس والظّنون لم تترك نور حتّى غلبها البكاء وملأها الحزن .لكن زهرة لم تيأس وظلّت تحاول معها حتى خرجت من الغرفة للحديقة، وظلّتا تتحدثان عن الجامعة والمحاضرات. كانت زهرة سعيدة جدّا بها وأخبرتها أن تجهز لها غرفة أخرى لتكون على راحتها فالفيلا كبيرة، لم ترد نور عليها، كانت شاردة في حزن عميق .بينما واصلت زهرة الحديث عن مشاعرهما وما سيفعلان خاصة في الإجازة ستكون أيّام حافلة بالمغامرات والسّعادة، لعب ورقص وغناء وقصّص ومسلسلات، كانت زهرة متحمسة بينما نور لا ترد، انتبهت نور على صوت أحمد ينادي زهرة، فارتجف جسدها خجلًا وحبًا وهمست لنفسها:- ليته يعلم مشاعري؛ لعشنا أجمل الأيّام معا، لكنّه يعيش في صومعته، وسط ذكرياته مع زوجته ولن ينتبه لي أبدًا. بعد تناول العشاء ألقى أحمد عليهما تحية المساء وذهب للنوم، بينما ظلت زهرة تحكي دون توقف، تنعتها نور لكثرة كلامها (الرغاية)، وترجوها أن تتوقف قليلًا معلنة أنّها لن تظل هنا طويلًا، لتُصدم زهرة بالخبر وتحطم أحلامها وفرحتها، فقد قررت نور أن تذهب لأبيها وتتّحمل معاناتها مع زوجته وتطلب من زهرة ألّا تناقشها في الأمر وتذهب للنوم تاركة زهرة في حزن كبير، بعد أن ذابت كلّ أحلامها.
في الصّباح تستيقظ نور مبكرًا تأخذ حقيبتها، وتتجه لمنزل والدها الّذي تركته منذ سنوات طويلة، دقت الباب وانتظرت والدها أن يفتح، وهي تسأل نفسها:- هل سيعرفني؟ لكن يفتح شخص آخر غريب وليس والدها، تسأله نور عن والدها، لتكتشف أنّه ترك المنزل منذ سنوات وسافر للعمل بالإسكندرية واستقر مع أسرته الجديدة، ولا أحد يعلم عنوانه هناك.
تكاد أن تفقد توازنها من الصدمة، تبكي متسائلة:- هل لهذه الدرجة لا يهمه أمري؟ سنوات ولم يسأل عني أو يشتاق لي، ألستُ ابنته ومن دمه أيّ نوع من الآباء هو؟ هذا ليس أب! إني أكرهه وأتمنى أن يموت، رحمكِ الله يا أمّي لم يعد لي أحدا بعدكِ، ليتني مت معكِ، يا رّب ليس لي غيرك، أين أذهب الآن؟. فجأة وهي تسّير بالشّارع باكية، تجد أحمد وزهرة أمامها، تنهار وترتمي بحضن زهرة، مرددة بحزن:- لقد رحل أبي يا زهرة، رحل للعمل بالإسكندرية ولم يهتم بي ولا بوجودي، آه يا أمّي ليتني أموت لأكون معها. تبكي زهرة معها وتحاول تهدئتها ثم تركبان السّيارة وتتجهان إلى الفيلا، يعمّ الصّمت والحزن على المكان. تذهب نور للغرفة لترتاح، تود زهرة الذّهاب خلفها لكن أحمد يشير لها أن تتركها ترتاح فهي عانت كثيرا وتحتاج أن تبقى وحدها لترتاح، وترتب أفكارها وتهدأ قليلًا.
مرّت شهور ونور يزداد تعلقّها بأحمد، لم تكف عن التّفكير به، تنام وتصحو على صورته وصوته، أصبح فارس أحلامها وحلم حياتها. لكنّها حزينة لعدم انتباهه لها، يعاملها كابنة له فقط، وهي لا ترضى بذلك، متى ستحقق حلمها؟ متى سيرقصان على أنغام الموسيقى الهادئة؟ كلّما قرّرت أن تبوح له تخجل وتتراجع حتّى فكرت أن تكتب له رسالة. كتبت ومزقت آلاف الأوراق وأخيرا كتبت رسالة تبوح له بمشاعرها، وعطرتها ووضعتها على سريره مع وردة حمراء، ظّلت ساهرة طوال اللّيلة تنتظر أن ينادي عليها، تنتظر رده ولو بالرفض، لكنّه لم ينطق بحرف، مرّت لّيالي طويلة وهي تموت شوقا له وحيرة من أمره، فلا هو وافق وبادلها الحب كما تمنّت ولا هو رفض وأراحها من أوهامها تلك. حتّى جاء يوم الجمعة الّذي تذهب فيه زهرة ووالدها لبيت العائلة، كعادتهما منذ سنوات ولكن نور كانت ترفض دومًا الذّهاب، فلا تحب زهرة أن تغصبها وتلح عليها، استأذن أحمد بعد توصيل زهرة وأخبرها بأنه سيذهب ساعة لمقابلة صديق ويعود، اتّصل أحمد بنور ليخبرها أن تجهز نفسها وسوف يأتي لاصطحابها في مشوار، طارت نور من السّعادة ظنّت أنّه سيعترف لها بحبه .ويريد أن يفاجئها كما حلمت وتخيلت، لعله ينتظرها في مكان أكثر رومانسية كما ترى في المسلسلات، ظلت تحلم حتى وصل أحمد وخرجت لمقابلته وركبت السيارة معه وانطلق، ظل أحمد صامتا طوال الطريق حتى وصلا لحديقة قريبة، بدأ أحمد الكلام معتذرا لها عن تأخره بالرد على رسالتها، فلم يجد الوقت المناسب للرد لذا أحضرها إلي هنا، ثم قال لها: لا نستطيع الكلام وحدنا بالمنزل، لتسمعيني جيدا وتفهمي ما سأخبركِ، أريدكِ أن تفهمي كلامي دون غضب، لأن جلوسنا هنا أيضا خطأ كبير، بلدنا صغيرة وأخشى عليكِ من كلام الناس فأنت مثل زهرة تمام. عبست نور من كلامه وظلت صامتة، بينما استطرد حديثه:- أنا أقدر مشاعركِ نحوي ولكن واجبي توجيهكِ، ما زلتِ صغيرة واختلطت عليكِ المشاعر، افتقادكِ والدكِ وحبه وحنانه؛ صور لكِ مشاعركِ نحوى بغير ذلك، الإعجاب والتعلق ليس حبا، أنتِ عندي مثل زهرة ابنتي الصغيرة لا فرق بينكما أبدا، سوف تقابلين فتى أحلامكِ وسأزوجكِ له يوما ما باعتباري أبًا لكِ، وهذا وعد مني. فلتنسي كل ما حدث وتعتبريه لم يكن، المهم أن تركزِي على دراستكِ، وتهتمي بدروسكِ لا تدعي الفراغ يغلبكِ بأوهام وظنون .
كانت نور تنصت إليه بتوتر، امتلأت عيونها بالدموع وأحمرّ وجهها خجلا، وهزت رأسها بالموافقة ولم تقو على الكلام أبدا ولا النّظر إليه، خجلت من نفسها وتمنت لو ابتلعتها الأرض، وظلّت أيّام تتجنب مقابلته. مرّ العام و انتهت الامتحانات وكان موعد نزول مايا وجاسر وأولادهم لمصر ككل عام، وبالتالي الذهاب لبيت العائلة حيث لا تحب نور الذّهاب معهما ولكن لن يكون يوما ككل أسبوع .فالعُطلة شهر كامل تقضيه زهرة مع العائلة هناك، فلابد من الذّهاب معها وإلّا كيف تجلس وحدها بالفيلا، اضطرت نور للموافقة رغم أنّها تشعر بالحرج والخوف، فمهما يكن هي ليست من العائلة، ولكنّها مجبرةً وليس لديها خيار آخر. ذهب الجميع إلى بيت العائلة ونامت نور مع زهرة بغرفتها الّتي كانت غرفة سمر من قبل، كانت زهرة سعيدة ومتحمسة تخطط للأيّام والليّالي المقبلة، تحلم بالألعاب والسّهر والأحاديث مع الجميع. لم تكف زهرة عن الكلام منذ وصولهم ظلّت تحكي لنور عن مايا وجاسر وأولادهم، حتّى نامت نور منهكة من التّعب .ابتسمت زهرة وقالت هل أنا حقًا كثيرة الكلام، لنكتفي بهذا القدر الليلة، أطفأت الأنوار وخلدت إلى النوم .في الصّباح ذهب أحمد ومعه طارق للمطار واستقبلوا الأهلَ جميعًا وعادوا بسلامٍ للمنزل وبعد التّرحيب بهم تناولوا الغذاء بسعادةٍ. شعرت نور بالسعادة رغم خجلها فهي تفتقد جو العائلة وأحست اليوم بشعورٍ غريبٍ ،دفء ومودة ورحمة كأنّها وسط أهلها، حقًّا الآن عرفت ما تقصده زهرة وما كانت تعنيه والدتها رحمها الله بأنّ الحياة هي حضن العائلة .في المسّاء اجتمع الشّباب والبنات في الحديقة، البنات تحكي عن الملابس والموضة والأفلام والمسلسلات والقصّص والرّوايات الّتي قرأنهن والشّباب عن كرة القدم والدّراسة ومشاريع المستقبل. التفت كريم بن جاسر لنور يسألها:- من تكونين؟ فأوّل مرّةٍ أراكِ هنا.
صمتت نور قليلا وانبهرت بوسامته، ورائحة عطره الّتي تفوح مثل عبير الزّهور، وعندما تلاقت عيونهما أحستْ برعشةٍ تسري في جسدها، وكأنّ قلبها يعزفُ ألحانًا جميلة والكون كلّه يرددها وكأنّ الرّبيع والخريف والصّيف والشّتاء اجتمعوا في لحظةٍ واحدةٍ، وجهها يعتريه نار الصّيف خجلًا وقلبها يرفرفُ كعصفور وسط حديقة بأزهارها العطرة ربيعًا، وأوراق الأشجار تتساقط فوق رأسها خريفا وكلماته تتساقط على مسمعها كأمطار شتوية فتنبت فرحًا وسعادةً، طال انتظار كريم ردًا منها لكنّها شاردة كأنّها في عالم آخر.
أنقذت زهرة الموقف وأبلغت كريم أنّها نور صديقتها وتعيش معها هنا بعد وفاة والدتها، أكملت زهرة التّعارف وسلمت نور على الجميع والكلّ رحب بها، بينما ظلّ كريم يسترقُ نظراته لنور الّتي سعدت بها لكنها خافت أن تحلم وتتهدمُ قصور أحلامها مرةً أخرى، فحاولت ألّا تتّعلق به وتذكّرت السّر الّذي تخفيه عن زهرة وانقبضَ قلبها، انتهت السّهرة وذهب الجميع للنوم. في الغرفة تنظر زهرة لنور بسعادة مرددة:- أعتقد سيكون هناك قصّة حب كبيرة، كريم لم يرفع عينه عنكِ، إنّه الحب من أوّل نظرةٍ.
ترد نور مستنكرة:- حب!، الحب لم يُكتب لي يا زهرة، فلا تبني قصورًا على الرمال فتهدمها أمواج الفوارق والطّبقات أين أنا منه؟! هو طبيب و يعيش في ألمانيا، هناك فارق مادي واجتماعي كبير بيننا، لا تحلمي، لقد كففت عن الأحلام وقررت أن أعيش الواقع.
تعبس زهرة مرددة: - ماذا تقولين؟ هل حقًا هذا تفكيرك طبقات وماديات، لا أعتقد أنّ كريم يفكر هكذا؟! هو يتعامل بتواضع وأخلاق لم أشعر بغروره أو تعاليه، ولا أحدًا منا يفكر هكذا، أنتِ الآن من العائلة، لا تعيشي دور الحزن والألم، افرحي قليلًا.
ترد نور بأسى وحزن: - أيّ حب يا عزيزتي؟! مجرد إعجاب لا تتسرعي كعادتكِ، دعكِ مني الآن وأخبريني ماذا عن طارق؟
تتعجب زهرة: - ما به طارق! إنّه ابن خالي حسين كما تعلمين وأعتبره أخي وصديقي.
تضحك نور مرددة:- هل تمزحين معي؟ طارق يحبكِ وهذا يظهر جيدا، هل حقًا لا تعلمين أم لا تريدين إخباري بالأمر؟، هيا اعترفي يا صديقتي
تبتسم زهرة مستنكرة: - أنتِ من تمزح،لا شيء من ذلك أبدًا، ماذا حدث لكِ؟! لقد تعودتِ على الكلام الكثير أيضًا هيا نامي أفضل لكِ.
ترد نور ضاحكة: - حقًا أنا كثيرة الكلام؟! نامي أيّتها الملاك الهادئ قليل الكلام تصبحين على خير. تحاول نور النوم ولكن تظلّ كل منهما ساهرة تحلم بفارسها، أحلام وردية وتبنى قصورًا من الخيّال، حتّى يغلبهما النوم. في الصباح يستيقظ الجميع مفزوعين على صراخ بالشّارع