"لا أستطيع الكتابة، لأول مرة أشعر أني عاجزة، تخترق الأصوات أذني وحواسي وتسبب الإرتعاش لأطرافي وأصابعي، انا لا أنوي الأذية ولم أنويها أو أقدر عليها من قبل، لكنهم يسببوا لي الأذية، يسببوا لقلمي وإبداعي ورأسي وعقلي وحتى نفسيتي...
-الله يا نفيسة أسلوبك تحفة بجد، انا مستمتعة جدًا حاساكي بتتكلمي عن شعور حقيقي.
-وانا كمان مع أني أول مرة أشوفك، وأول مرة أعرفك وأقرالك حاجة بس بجد أنتي مميزة.
-طب كملوا كده..
"بدأ الأمر منذ عام، علمت أن الفيلا بجانبي تم تأجيرها، لم يخبرني أحد لكني علمت من الحياة التي دبت بها في ليلة ما، خطوات لشخص أو اثنين عالأكثر، شعرت ببهجة، أخيرًا سيكون لي جيرانًا أستأنس بهم في الصحراء المقفرة التي أعيش بها حيث أني أسكن في الأطراف، حي جديد، بجانبي بعض الفيلات وأمامنا صحراء، لذا يصطدم بي هواء البرد القارص ولا يصده أي حوائط أو مبانٍ، لا يحميني شيء من البرد القاسي، لكن وجود صحبة ، أصوات وهمسات سوف يدفئني ويهون علي الوحدة والبرد، هذا ما ظننته حينها، لكن الأمر تطور، سكن الفيلا بعدها أكثر من شخص، تكاثرت الأصوات ، فهمت بعدها أنها مشفى من الهمسات التي علت، والخناقات التي أشتدت والكلام الذي تناثر من بعض الأطباء والمرضى، والسيارات التي جاءت ووقفت وذهبت، تأتي بالمرضى..حتى حينها لم أنزعج لولا أني تأكدت إنها مستشفى للأمراض العقلية! سرت في جسدي رجفة عند تأكدي، باتت أحاديثهم أعلى صوتًا، ثم أن عددهم زاد فزاد، أصبحت أسمع أغلب الأحاديث وأشهد الصرخات والبكاء والنحيب....
-ده ايه ده، نفيسة هو القصة دي حصلت بجد؟
-انتي شايفه ايه؟
-شايفه أن وشك بقى باهت وشاحب من فترة، منظرك بصراحة يخض، تحت عينك بقى أسود مفيش أي makeup عارف يخفيه، بس انا بحاول أخليكي تتكلمي من مدة وانتي دايما بتنكري أن في حاجة، هي دي الحاجة؟
-ايوه، مكنتش قادرة اتكلم ولسه مش قادرة اتكلم عشان كده كتبت اللي بمر بيه واللي مخليني عاجزة أكتب أي حاجة جديدة من مدة.
-انا آسفة أنك مضطرة تفضفضي ولو بالكتابة ف أول مرة أشوفك فيها.
-أبدًا انا ارتحتلك، وهيفاء حكتلي كتير عنك، هعتبرك زيها، كملوا قراية...
"سمعت امرأة في يوم من الأيام تصرخ بصوتٍ جهور شعرت أنه يكاد يخترق السماء تقول :-مين قال لكم أني عايزه أفوق، انا لو فوقت هموت كل دقيقة، مش عايزه افوق مش عايزه اتخلص من ادماني، انا ابني مات ومش عايزه افتكره! اللي جابوني هنا عايزين يأذوني، عايزين يكسروا قلبي، الكوك هو اللي بيحيني والفوقان هيموتني!".. بكيت! بكيت بحرقة حين سمعتها، لقد إخترقت أوجاعها صدري.. وفي يومٍ آخر سمعت الطبيب يحدث مريض ويقول له : انت مفيش فيك أي سبب عضوي يفسر خرسك، مفيش فيك حاجة!
الخرس اللي فيك بإرادتك لازم ترجع تتكلم، لازم تساعد نفسك، تأكد أن الخرس والإنعزال مش حل، لو الحل في الهروب كانت الدنيا أسهل كتير، كنا كلنا هربنا يا سيدي، كنا جبنا الخرس لنفسنا".. بكيت أكثر من بكائي على السيدة المدمنة، لمست وجعه في صمته وتمسكه به، هذا الرجل تألم لدرجة أن لسانه شُل وعجز عن التعبير، أعجزه البشر فدخل نطقه داخل الكهف ودخل صاحبنا معه..ثم تطور الأمر إلى هلاوس، أصبحت أتخيل أشكال المرضى، أراهم جالسين معي، يتفقدوني ويتفقدون غرفتي وصالتي وغرفة المعيشة، أعدادهم زادت وزاحموني في بيتي وأفكاري، عجزت عن النوم بقيت صاحية أراقبهم، خفت أن أنام حتى لا يأذوني، ارتأريت أن أظل صاحية أراقبهم بينما يراقبوني، حتى أنني أصبحت أشاهدهم يخترقون الحوائط وأرى مشاهد لهم من المستشفى وحياتهم قبل المجيء، ويروني حتى ما يشبه القبور عليها أسماءهم ما هي الإحتمالات حتى أُبتلي ويبتلى شارع العزيز دونًأ عن غيره بتلك المستشقى والشقاء الذي تحمله...
-ثانية واحدة معلش شارع ايه؟؟
-شارع العزيز، ده الشارع اللي انا ساكنة فيه..
-هي الفيلا اللي متأجرة دي شكلها عامل ازاي؟
-لونها أزرق، فيها pool متغطي بمشمع كبير والإزاز بتاعها لونه أصفر شفاف.
-الفيلا بتقولي اتأجرت لمستشفى نفسي
-ايوه.
-في ايه يا سما بتسألي نفيسة ليه؟
-الفيلا فعلا اتأجرت لحد عملها مستشفى نفسي بس من 10 سنين! فضلت سنتين بعد كده الإيجار خلص واللي مسئولين عنها أجروا في مكان تاني والحالات اللي قريتها يا نفيسة حسيت أني سمعت حكاوي عنها قبل كده واتأكدت من وصفك للفيلا، الحالات دي كانت عند أبويا لأنه هو الدكتور اللي أجر الفيلا وتحتيه طاقم من الدكاترة، والست المدمنة والراجل الأخرس وشوية مرضى تانيين ماتوا من مدة....