خلال سنوات مراهقتها عاشت "هانم" أيام شاقة للغاية فقد صبغت النيلة نفسيتها وطل الهباب على سماءها ونثر بذراتِه عليها هذا لأنها اضطرت إلى الكذب في كل مرة على أصدقائها وزملائها عن مكان "المصيف" الذي ذهبت إليه في الإجازة الصيفية فبينما توزعوا هم ما بين "الساحل" و"شرم" و"الجونة" وخارج الدولة انطلقت هي مع أهلها المتحمسين وفي غاية الإنشكاح إلى "جمصة".....
لماذا "جمصة"، لماذا "أنا"، لم يا ربي دونًا عن الناس كلها؟؟ هل ذنبي أن أهلي من الدقهلية وقد اعتادوا وهم يعيشون بها أن يصيفوا هناك. والآن؟ هم يعيشون بالقاهرة منذ سنوات عديدة. تركوا الدقهلية والعائلة هناك، تركوها بحالها ومحتالها لكن تمسكوا ب"جمصة" دونًا عن باقي المحافظة؟؟
لم تكن "هانم" تنتظرالإجازة الصيفية كباقي أقرانها، إنما كانت بالنسبة لها بمثابة علقة سخنة مثلها مثل طابور الصباح الذي جُرت اليه جر. توجهت إلى الله بالدعاء كل بداية إجازة أن تحدث معجزة وينسى أبويها المصيف، أن يُصدم رأسيهما مثلا بحائط أو يعانوا من ضائقة مالية شديدة فيعلنا إفلاسهم ولا تصير هناك نقود للسفر أو تأتيها وعكة صحية، الجديري المائي الذي من المستحيل أن يصيبها حيث أصابها بالفعل وهي طفلة أو تفقد مثلا فجأة القدرة على النطق ويخبر الطبيب والديها : "أنها أصابها إنهيار عصبي ولا مجال للتحرك إلا إلى العزبة لتغير جو". لكن أي من تلك السيناريوهات لم يتحقق. الذي تحقق هو جرأتها في مرة من المرات حينما تقدمت إلى أمها وأبيها وأخبرتهما:
-انا...مش...عاا...يزه....أروح...جممم....صصة....السنادي.
-!
الصفيقة! كيف تتجرأ! الا تعلم ، الا تدرك؟؟! اعتاد والديها الذهاب مع والديهما وأعمامهما وعماتهما وأخوالهما وخالاتهما وأولاد وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات والأقارب من الدرجة الرابعة والخامسة والخامسة عشرة ومنهم بالتأكيد من توفى ولإحياء تلك الذكرى لا يمكن أن يقطعوا العادة، هل...تريد أن تدفن ذكراهم؟؟؟
-ما طبيعي الناس تموت انتوا كنتوا بتسافروا قبيلة.. احتمالات الموت كبيرة في الحالة دي.
طبعًا هي لم تقل ذلك بصوت عال بل ببالها يكفي ما طرحته بالبداية، هي لم تكن لتتحمل عواقب حرف آخر.
لا يعني الجحيم الذي تمر به في الصيف أن يكون الشتاء أقل وطأة أو أرحم لكن يبدأ موسم مختلف من العذاب، أدوات تعذيب مختلفة بها إبداع، أدوات متنوعة وعديدة بيد أداة رئيسية مصدر كل العذابات اسمها "أمينة"، هي في حد ذاتها عذاب على شكل إنسان ، عيناها كأعين الصقر تلتقط ضحاياها بكل سهولة، الضحية تكون الفتاة الخجلة غير الواثقة بحالها، المهزوزة، المنكسرة عيناها وكأنما تخفي شيء، تستحي من شيء، لها خزنة صغيرة تبقي بها سر حتى عن أقرب الناس اليها..... بمعنى أصح "هانم"! الضحية المثالية . تصطاد "أمينة" ضحيتها وتظل تتنمر عليها ، تترصدها، تصطادها في الراحة والمجيئة ، تغتت يومها، تستهزأ بها، توصي تابعاتها أن تضيقن الخناق عليها في كل ركن تذهب اليه، ترمينها باالنكات السخيفة وتتهكمن عليها وتختلقن القصص عنها، مثلا انها "ملبوسة" من جني تعدت عليه وأزعجته عندما استمعت إلى الموسيقى الغربية الصاخبة بعد منتصف الليل فقرر الإنتقام منها وتلبسها أو أنها "صبي" جاسوس تم دسه من مدرسة الصبيان المجاورة لمعرفة أسرار البنات ونقلها إليهم لكن هناك أخرى، فتاة تسيطر على "أمينة" من مدرسة البنات الأخرى القريبة، يقال أن لها سطوة أكبر وتابعات أكثر وأنها شديدة الانتشار لكن لم تتعرف "هانم" عليها أو تراها أبدًا.
ظل العذاب الروتيني على ما هو عليه مدار سنين حتى كان ذلك الصيف....
وصلت الأسرة إلى منطقة العاشر بجمصة حيث تقع شقة المصيف ومروا بمدخل العمارة المظلم وصعدوا السلم وصولًا للشقة. في البداية ظنوا أن ظلام المدخل والسلم ليس له علاقة بالشقة فهذا المعتاد، يكون المدخل دومًا مظلمًا، حتى حاولوا فتح الأنوار فاكتشفوا أن الكهرباء منقطعة. هنا اقترح الأب أن يذهب ليشتري بعض الشموع حتى عودة الكهرباء والأم لسبب ما غير مفهوم أقترحت أن تذهب معه والأخت الصغيرة أطلقت صرخة صغيرة غريبة ومزعجة وغير مفهومة لأنها "خائفة" وقالت أنها تريد أن تذهب معهما لشراء الشموع ولا تريد أن تبقى بمفردها ، على أساس أن "هانم" هواء أو ظل أو ليس لها وجود أو وجودها غير معتبر فتكون "جنات" بمفردها إذا ذهبا وتركاهما وهما وافقا على الفورعلى أساس أن "هانم" "بنت البطة السودا" ولا حاجة لذهابها معهم لشراء الشموع العظيمة، لا يهم فهذا أفضل، فليذهبوا ولتبقى بمفردها، "إذهبوا عليكم السلام".
تمددت في الدقائق الأولى تنظر إلى السقف أو بمعنى أصح إلى الظلام ناحية السقف.
كانت بمفردها تمامًأ أو هذا ما ظنته....
كان هذا قبل أن تستمع إلى خطوات تقترب نحوها، "هل أتوا بهذه السرعة؟؟ لا يمكن أبدًا، هل نسوا شيئًا؟؟ لماذا لا يصدرون أي صوت؟ لماذا لا يتحدثون؟ ثم لاحظت بريق صغير يتوهج أكثر فأكثر كلما أقتربت الخطوات حتى توقفت الخطوات.
صار الوهج داخل الشقة بعد أن أتى من الخرج حيث كان الباب مفتوحًا و"هانم" حاولت أن تحافظ على رباطة جأشها فهي لم تكن من النوع الذي يجزع بسهولة. قامت ببطء متوجهه نحو الوهج الثابت مكانه ونطقت:
-مين؟!
لا إجابة... حسنًا الوضع صار مريبًا بعض الشيء..لماذا لا يرد هذا الشخص أو ربما يكون "شيء"...ما هذا الوهج وسط الظلام ومن أو "ما" الذي حمله إلى هنا؟. تقريبًا تيقنت "هانم" أن هذا الوجود غير بشري وأنه " سلامٌ قولًا من رب رحيم "
الآن قررت أن تتأكد "هل أتى في سلام" أو "في غيره؟" تجرأت وأقتربت أكثر منه وسألته:
-انت جي ليه؟
-انا جي اتمسخر!
هنا انتفضت وأنطلقت صرخة رغمًا عنها.
ثم تبعت الجملة ضحك هستيري من الذي قالها وأخذ الوهج يتحرك في كل الإتجاهات. هنا بدأت "هانم" تتبين صورة فتاة تحمل الوهج الذي هو "ثانية واحدة" ، شمعة! كانت مجرد فتاة في سنها تحمل الشمعة، دخلت بها من الطرقة عندما وجدت الباب مفتوحًا ولم تكن "عفريت ولا يحزنون"!
بدأت تتحدث الفتاة:
-انا جايه مع أبويا لوحدنا راح يشتري لمبة أو شمع تاني عشان فاضل دي وواحدة تانية وانا كنت لوحدي وسمعتك انتي واهلك وانتوا بتتكلموا فقلت اتسلى واجي معاكي لما يمشوا، سوري بجد ماكنش قصدي اخوفك.
-لأ عادي، بس هو انتوا ليه جيتوا لوحدكوا.
-ماما عند عمتها في المستشفى في القاهرة هتحصلنا لما تتحسن.
-انتوا قاعدين في القاهرة؟ واحنا كمان . انا "هانم".
-"سما".
ثم أقترحت عليها أسماء أن تنتقلا إلى شقتها وتكملة جلستهما هناك إلى أن يظهر والديهما.
في البداية جلستا تتحدثان في أمور تافهة وعديدة، عن الارتباط والصبية وأمور المراهقة ثم عن المدرسة ولزوجتها والدراسة الثقيلة وكيف أنهن تمنين أن تتخرجا بسرعة. ثم....
نظرت "سماء" إلى "هانم" نظرة خبيثة تنم عن فكرة طافت بسماءها وضوء الشمعة الخافت زاد من الإثارة حيث بدت ملامحها غامضة ومرعبة
-تيجي نلعب لعبة خطر.
-هنولع في العمارة ولا ايه مش فاهمة.
-لأ، كل واحدة هتكتب لسته بأكتر حاجات بتخوفها وتديها للتانية والتانية هتختار منها حاجة واحدة، بيقولوا اللي يلعب اللعبة دي في الضلمة بتتحقق ، يعني الحاجة اللي بتخوف دي بتتحقق وبتظهر علطول!
ارتجفت "هانم" وابتلعت ريقها بصعوبة لكنها حاولت إخفاء رعبها ووافقت حتى لا تبدو ك"عيلة خوافة" .
كتبت كل منهن قائمة بأكثر الأشياء التي تخيفهن ثم تبادلتا الأوراق.
-هنبتدي بيكي!
قالت "سماء". بالطبع! هذا ما يحدث غالبا ، دومًا ما تكون "هانم" الأوفر حظًا. نظرت "سماء" إلى قائمة "هانم" نظرة مطولة وكأنها تريد أن تتمعن في الإختيار وتحاول تخمين أكثر ما يخيف "هانم" بالقائمة ثم اختارت أخيرًا.
-هاه اخترتي ايه؟
-لأ اللعبة ما تمشيش كده، المفروض ما قولش.
-طيب هاه وبعدين؟
-نستنى...
قالتها بضحكة خبيثة، زادت الأجواء رعبًا.
وظلت الضحكة البلهاء على وجهها ونظرة الشماتة تلك. كان هذا قبل أن....
جاءت نسمة من حيث لم تعلما طفت الشمعة! وكأنما استهدفت النسمة الشمعة بالذات. لم تر "هانم" إنما اختفت الضحكة من على وجه "سماء" وحلت محلها نظرة مرتعدة. تحركت "سماء" سريعًا نحو مكان الشمعة الأخرى ولكن قبل أن تصل اليها...
شعرت الاثنتان بأنفاس قريبة منهن ووجود آخر.
-"سمااااا"
-ايوه..حاسه!
-فين الشمعة يا سمااااا؟
-اهو رايحة، بس اسكتي متوترنيش.
ثم...أصوات خطوات تبتعد وتقترب ...تتمشى في المكان، في كل الأركان.
أخيرا نجحت "سماء" في الوصول إلى الشمعة وقبل أن تضيئها سألتها "هانم".
-هو انتي اخترتي ايه؟
-ست عجوزة من غير سنان شعرها أبيض هايش.
-انتي عارفه ان مكنش قصدي ست بجد مش كده، عفريت على الشكل ده.
-كفاية كلام عن الزفته اللسته يا "هانم".
أمسكت "هانم" الشمعة لتمسك "سماء" علبة الكبريت والعود وتشعله وتضيء الشمعة وما أن أُضيئت...
رأت "هانم" وجه إمرأة عجوز بشعر مبعثر هائش أبيض وتبسمت فكشفت عن فاه دون أسنان. صرخت صرخة مدوية ودفعت الشبح حتى التصق بالحائط وأخذت تضربه ولا تتوقف أما "سماء" فجرت نحو المطبخ وأتت بطاسة كبيرة ثم التحقت ب"هانم" وشاركت بالضرب باستخدام الطاسة على رأس الشبح وذراعه وكل شبر بجسده حتى توقف عن المقاومة تماما...
هنا عادت الكهرباء والأنوار. نظرت "سماء" إلى الواقعة بالأرض فأطلقت صرخة أخرى فاقت الصرخات الأولى.
-يا خبر أسود دي عمة أمي!
-؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أعطت الطاسة لهانم وأشارت لها أن تعيدها بسرعة إلى المطبخ بينما حاولت جاهدة أن تفيقها بعد أن تأكدت من وجود نفس خافت جدا مازال بها. دخلت أم "سماء" وسألتها بجزع عما حدث، بالطبع أختلقت الأكاذيب واخبرتها أنها وقعت دون مقدمات وأنه لم يصح أن تأتي بها بعد إعياءها مباشرة وحذرتها من إحتمال أن تصيبها بعض الهلاوس وأنها قد تتفوه ببعض الحماقات إن فاقت المسكينة. لحسن حظ الفتاتين الضرب المبرح على رأس العجوز أتى بثماره فقد فقدت ذكرى تلك الليلة تماما ولم تتذكر ما حدث في العشرين سنة الأخيرة.
***************************
بدأ العام الدراسي وبدأ فم "هانم" يتمدد ويمتد إلى الأمام في حالة من البؤس العارم. انتهى طابور الجحيم وتوجهت إلى الفصل لكن استوقفها شيء في الطريق . وجدت "أمينة" تقف مع فتاة تعرفت "هانم" عليها، يا الهي! انها "سماء" ويبدو أن "أمينة" واقفة منكمشة بجانبها، أيعقل؟!....أتكون "سماء" هي الفتاة الأخرى، تلك التي تتحكم ب"أمينة"ب"حالها" وتأكدت الشكوك عندما رأتها بزي مختلف عن باقي الفتيات فهي لم تنتمي إلى مدرستهن. تقدمت إليها بشجاعة. انتصب شعر رأس "سماء" عندما لمحتها فهذه لديها أخطر الأسرار، الفتاة التي قابلتها ليلة واحدة وكادت أن ترتكب معها جريمة قتل.
جذبت "هانم" سماء من ذراعها وهمست لها:
-ابعدي صاحبتك عني، قوليلها ملهاش دعوة بيا يأما هضطر أتكلم.
لم تقصد "هانم" ما حدث تلك الليلة فقط لكن واقع أن "سماء" تصيف مثلها في "جمصة" فإنها تيقنت دون سؤال أن "سماء" تكذب بشأن مصيفها كل سنة ولا تفتخر به كثيرا. ومن هذا اليوم تغيرت حياة "هانم" وصارت برنسيسة لا يقلقها أو ينغص عليها لا "أمينة " ولا "غيرها" باستثناء المصيف الذي لم يتغير، لا يهم ففي النهاية "اللي يحصل في جمصة بيفضل في جمصة"
تمت