في كل سيرة تُكتب، وفي كل ذاكرة تُستعاد، يقف الأب كظلّ خافت لا يغيب. ليس مجرد شخصية في العائلة، بل ثقل أولي يعيد الفرد عبره قراءة ذاته، ويقيس المسافة بين الطفولة والنضج. حين يفتح الكاتب دفاتر حياته، لا يستدعي الأب كما كان، بل كما ترسّب داخله: صورة تتبدّل مع مرور الزمن، تكبر حين يكبر، وتلين حين تشيخ التجارب، حتى يصبح الأب مرآة للنص، لا مجرد ماضٍ يُستعاد.
أحيانًا يظهر الأب بوجه السلطة؛ بصرامة لا تُسمّى قسوة، وبقواعد صامتة تشكّل الروح دون أن تنطق. هنا، يمشي الكاتب داخل هيبته كما لو يتلمس جدران بيت يعرفها جيدًا وإن لم يعد يسكنه. الأب هنا ليس فقط من منح الخوف أو الصلابة، بل المدينة الداخلية التي بُنيت من أمر ونهي ويد لا تُنسى.
وفي أحيان أخرى، يتحوّل الأب إلى ضوء يشبه نافذة تُفتح حين تضيق الحياة. لا يأتي بصراخ ولا بعنف، بل بلحظة صغيرة، بكلمة، بابتسامة، بطمأنينة المعنى، ليصبح حضوره شعورًا وقيمة، لا مجرد هيمنة. هذا الضوء، رغم بساطته، يرافق الكاتب في طرقه الوعرة، ويترك أثرًا يظل بعد أن تغيب الكلمات. أتذكر اللحظة التي همس فيها أبي لي بكلمة غيرت يومي… هذه اللحظة الصغيرة تصنع الأب خالدًا في الذاكرة.
الغياب أيضًا حضور. ففي بعض السير لا يظهر الأب، ومع ذلك يظل مركز الحكاية. غيابه يحفر، ويسحب الحياة إلى مكان آخر، ويجعل الكاتب يمشي محمّلًا بما لم يُعطَ له. الغياب هنا ليس فقدًا، بل مرآة مشروخة يرى الكاتب من خلالها ملامح ذاته التي لم يكتمل لها إطار. وفي كتابات النساء، يأخذ غياب الأب هذا البُعد أكثر تعقيدًا؛ غياب الحماية في مجتمع ذكوري يدفع الكاتبة لبناء ذاتها بقوة مضاعفة، ويجعل الأب حاضرًا بطريقة غير مباشرة، في كل لحظة من مقاومة واستقلال.
وعندما تكتب المرأة سيرتها، يظهر الأب أحيانًا كقيمة معرفية، لا كسلطة مطلقة؛ مفتاح أو حاجز، سؤال يفتح أسئلة أخرى، جسر يُبنى ويُهدم في الوقت نفسه. الأب في السيرة هو البداية التي تُقاوَم والمرجعية التي تُعاد صياغتها، وهو الضوء الذي يوجه الوعي نحو استقلاله.
في الأدب، كما في السيرة، هناك ما يُكتب وما يُلمح إليه وما يُتعمّد عدم قوله. الرواية ليست تقريرًا ولا بيانًا صحفيًا، بل عالم ناقص متعمد؛ فراغات وصمت تُترك للقارئ ليصبح شريكًا في خلق المعنى. الأب، بكل صوره، يشبه تلك المساحات البيضاء: أحيانًا ظل ثقيل، أحيانًا ذراع تمتد، وأحيانًا باب كان يجب أن يُفتح ولم يُفتح.
إن حضور الأب في الذاكرة ليس مجرد استعادة لشخصية ماضية، بل إعادة بناء للذات عبر المرآة الأولى التي تشكّلنا من خلالها. الأب هو السلطة حينًا، والحماية حينًا، والغياب الملهم أحيانًا أخرى. وفي المسافة بين ما يُقال وما يُترك بلا كلام، تنشأ السردية الحقيقية: سردية الإنسان وهو يعيد تأويل العالم من خلال صورة الأب، ويعيد صياغة ذاته في ظل حضوره وغيابه على حد سواء.





































