منذ أن اكتشف الإنسان صوته، أدرك أن ما يخرج من فمه ليس هواءً، بل مصير. فالكلمة، رغم بساطتها الظاهرة، تحمل في عمقها شرارة قد تُضيء عالمًا أو تُحرقه. ومنذ أن بدأ الإنسان ينطق، فهم أن الكلمة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل سلطةٌ خفية قادرة على فعل ما لا يفعله السيف.
في التراث العربي، نظر الجاحظ إلى الكلمة بوصفها مرآة للفكر، ورأى أن البيان هو القدرة على إقامة المعنى في النفس، بينما جاء عبدالقاهر الجرجاني ليقول إن المعنى لا يعيش خارج الكلمة، وإن اللفظ ليس أصواتًا متناثرة، بل بناءٌ وعلاقة وقيمة. وفي الجهة الأخرى من العالم، كانت الفلسفة الغربية تنقل الكلمة من حيّز البلاغة إلى فضاء السلطة؛ ففوكو رأى أن الخطاب منظومة تتحكم في المعرفة والسلوك، فيما أكد دريدا أن الكلمة مراوغة، وأن المعنى يتحرك ويتبدل وفق سلطة المجتمع وثقافته. ومع اختلاف هؤلاء جميعًا، تتضح حقيقةٌ واحدة: الكلمة ليست وعاءً للمعنى… بل هي صانعة المعنى.
والتاريخ نفسه لم يُكتب بالسيوف، بل بالخطب التي سبقت السيوف. بكلمة قالها طارق بن زياد “البحر من ورائكم والعدو أمامكم” تقدمت الجموع نحو التاريخ، وبكلمة أعلن مارتن لوثر كينغ “I have a dream” فاهتزت أمريكا، وبخطاب القسم لنيلسون مانديلا أُعيد تعريف الحرية في جنوب إفريقيا. وفي المقابل، كانت الخطابات نفسها قادرة على صناعة الكوارث؛ فالكلمات التي ضلّلت العالم، من تبريرات الحروب إلى صرخات الطغاة، أحرقت قبل أن تُطلق رصاصة واحدة. وبين الكلمات التي تُحيي وتلك التي تميت، تلتمع عبارة الشرقاوي في الحسين ثائرًا: “الكلمة نور… وبعض الكلمات قبور.” كلمة تفضح الظلم، وأخرى تحميه. كلمة تُحرر، وأخرى تُخضع. وهكذا تتحول الكلمة إلى ميزان أخلاقي تُقاس به قيمة الإنسان.
وفي زمن السوشيال ميديا، تحررت الكلمة من رقابة المؤسسات، لكنها وقعت في فخ السرعة والسطحية والضجيج. صار بإمكان كلمة واحدة أن تُشعل حربًا رقمية أو تُسقط سمعة أو تُلهب شارعًا أو تمنح شرعية لظلم أو تُلهم حشودًا تبحث عن أمل. ولم تعد المشكلة في الوصول إلى الكلمة، بل في أن تكون الكلمة جديرة بأن تُقال. فلكل فرد منّا منبره الصغير، لكن السؤال هو: هل يستخدمه شاهدًا على الحقيقة… أم عبدًا لوهم الشهرة؟
حتى هذا النص يمارس فعلًا من أفعال الخطاب؛ فهو لا يشرح الكلمة فقط، بل يستخدمها ليعيد تشكيل وعي القارئ. إن الكلمات هنا تُصاغ بنبرة تأملية تدعو القارئ إلى المشاركة، وكأن النص يمدّ له مرآة ويقول: هذه كلمتك… فهل ستجعلها نورًا أم ظلًا؟ فالتراث العربي الذي ربط الكلمة بالأمانة والشرف والصدق، والفكر الغربي الذي ربطها بالسلطة والهيمنة، يلتقيان في مفارقة جميلة: أن نصنع كلمة عادلة وواعية ومقاوِمة؛ كلمة لا تُزيّف ولا تُخضع ولا تتورط في الظلم.
والمثقف الحقيقي ليس من يكتب كثيرًا، بل من يعرف أن كل كلمة قد تصبح قدرًا لإنسان لا يعرفه. فمسؤوليته أن يقاوم الكلمات المهيمنة التي تُعيد إنتاج الظلم، وأن يخلق كلمات مضادة تُعيد للحقيقة صوتها ومكانها.
وفي النهاية، تبقى الكلمة ليست صدى… بل فعل. كانت البداية، وستظل دائمًا البداية. بها يُصنع الوعي، ويُكسر الخوف، وتقوم الثورات، وتُبنى الأخلاق، وتُهدم الأصنام. فالكلمة — كما قال الشرقاوي — ليست مجرد صوت، إنها نورٌ يضيء… أو ظلّ يعتم. وهي مسؤولية الإنسان الأولى… وشرفه الأخير.





































