مهما حاولت أن أفعل لأرضيك ستظل هي بيننا وستقارنني بها وبالطبع عين المحب سترى كل مميزاتها وكل عيوبي. ليتني ما أحببتك ولا عرفتك، ليت قلبي يقدر على نسيانك. كنت أتحدث إلى نفسي وأنا أراك تجلس منفردًا بصورها وذكرياتها معك، رافضًا أن تعترف بموتها وتفتح قلبك لمن تعشقك .
صنعت كوبًا من الشاي ودخلت إلى الشرفة التي ترى البحر من بعيد وجلست أنظر إلى البحر وأتذكر عندما انتقلت إلى بيت عمي في القاهرة بعد وفاة أبي وزواج أمي واصطحابها لي إلى بيت عمي وتركتني عنده دون أية مبالاة وكأني حمل ثقيل على عاتقها تلقيه على غيرها. شعر عمي بثقل حملي على كاهله أيضًا فهو لديه ولد وبنتين ومصاريفهم باهظة وها أنا أزيد أعباؤه. كانت زوجته تكرهني بلا سبب ولذلك قررت أن تجعلني خادمة البيت مقابل طعامي. كنت أنام في حجرة الفتاتين على الأرض بينما تنام كلتاهما على سرير خاص بها، لم أهتم إنما كان كل همي أن أكمل تعليمي لأخرج من ذلك البيت.
كان ذلك مجرد حلم لم تسمح لي به زوجة عمي إنما سمحت بعد إلحاح من عمي أن ألتحق بثانوي صناعي قسم نسيج لأجد عملًا في أي مصنع أو ورشة خياطة. تحطم حلمي بالالتحاق بالجامعة على أبواب الواقع، فقد كان هو من أسباب رغبتي في دخول الجامعة حتى أليق به وهو ذلك الطبيب الذي يحترمه الكل وتفخر به أسرته. كنا جيران في نفس العمارة وكنت أحلم بأنه يحبني وسيتزوجني ويسعد بعشقي له. كان حبه هو نسمة الهواء في صحراء حياتي القاحلة وهو ما يهون علي قسوة حياتي . كنت أعلم ألا أمل لي في حبه ولكني اكتفيت بأن أحبه وأستمتع بأحلامي به.
حصلت على الدبلوم وعملت بأحد المصانع بينما أكملت ابنتي عمي تعليمهما الجامعي ، وبالطبع غير مسموح لي أن أقارن نفسي بهما فأنا المنبوذة من الجميع والتي يرغبون في التخلص من عبئها. كان حبيبي هو الطبيب الذي يتفاخر به أهل الحي جميعًا بينما كنت أنا اليتيمة المجهولة التي أقصى أمانيها أن تنال نظرة شفقة. كانت زوجة عمي تحصل على راتبي كاملًا ولا تترك لي سوى القليل من أجل مواصلاتي وعندما سئمت من وجودي في حياتهم قررت تزويجي من نجار يقارب عمي في السن وهو مريض ويحتاج من ترعاه وخاصة بعد موت زوجته وزواج أبنائه. لم يسألني أحد رأيي ولم تكن لدي رفاهية الرفض فوأدت حلمي الجميل في أعماق قلبي وتزوجت رجلًا يكبرني بأكثر من عشرين عامًا ومريض ضغط وسكر وقلب.
كانت حياتي معه كئيبة لا تختلف كثيرًا عن حياتي في بيت عمي و رغم مرضه لكنه أحيانًا كان يصر على نيل حقه الشرعي بكل عنف وانتهاك لآدميتي ولم أستطع منعه أو الرفض فأنا من اشتراها بماله. كان كثيرًا ما يعايرني بأنه دفع في مهر وشبكة رغم أني لا أستحق، فلا أجيب خوفًا من بطشه. كان يغار علي بشدة بسبب صغر سني ويخشى أن أخونه مع شاب في مثل سني فكان يمنعني من الخروج نهائيًا ويعوض ذلك بأن يشتري لي أفضل الطعام والملابس حتى أرضى، وكأن رضاي أو سخطي مُهمان.
عشت معه خمس سنوات امتص فيها رحيق شبابي حتى صرت جسد بلا حياة،ثم مات بأزمة قلبية فلم أدرِ هل أفرح بحريتي أم أحزن لأني لن أجد بيتًا يحميني ورجلًا ينفق علي؟ بعد انتهاء أيام العزاء أخبرني ابنه الأكبر وهو مُعلم لغة عربية ولدية مركزًا للدروس الخصوصية أنه يحتاج إلى الشقة وأني ليس لي حق في أي ميراث شرعي لأن عمي زوجني بعقد عرفي. باعني عمي ولم يحافظ حتى على حقوقي والآن سأعود للشارع لأن عمي مات وزوجته لن تفتح لي بيتها.
تذكرت جدتي لأمي التي كانت تعيش في الإسكندرية وكانت تأتي لرؤيتي في الأعياد وتحضر لي ملابس جديدة ولكن زوجة عمي تشاجرت معها ومنعتها من دخول البيت. تركت لي جدتي عنوانها ورقم هاتفها مع البقال أسفل بيت عمي واحتفظت به لسنوات ويبدو أني سأحتاجها الآن.سافرت إليها وأنا أدعو الله أن أجدها على قيد الحياة، ومن رحمة الله وجدتها مريضة وتحتاج من يرعاها، وكأن الله جعل كل منا تحتاج للأخرى بقيت معها أخدمها لمدة عام وننفق من معاشها وبضعة جنيهات ترسلها لها أمي التي تزوجت ثري عربي وأنجبت منه وتعيش في سعادة متناسية ابنتها وأمها.ماتت جدتي فحزنت من أجلها كثيرًا فقد كانت امرأة طيبة لا تكف عن الصلاة وذكر الله وراضية دائمًا بأحوالها. قبل وفاتها بشهر واحد أصرت على تغيير عقد الشقة باسمي ودفعت لصاحب البيت مبلغًا كبيرًا وقالت أنها ستكون مرتاحة عندما تطمئن أني مستورة في بيت ولا أحتاج لأحد.
استبد بي الحزن على تلك المرأة التي فعلت معي في عام ما لم تفعله أمي طوال عمري.انشغلت بإعادة ترتيب الشقة الصغيرة القديمة التي تقع في حي شعبي، كما بحثت عن عمل قبل أن تنفذ نقودي فلم أجد سوى عاملة في محل ملابس حريمي فعملت به. كنت كلما شعرت بالوحشة أذهب إلى البحر وأجلس بالقرب منه أتأمله وأبثه شكواي وأسأله عن الحبيب وأحواله. كنت عرفت أنه تزوج طبيبة كانت زميلة دراسته وكان يحبها ولكن بعد ذلك كففت عن متابعة أخباره في محاولة لنسيانه.
يأبى قدري أن يرحمني فتشاء أقداري أن أتناول أكل يسبب لي التسمم فينقلني صاحب المحل إلى مستشفى حكومي فأجد حبيبي هو الطبيب المعالج وعندما يسألني أين رآني من قبل أعرفه بنفسي ولكنه لا يبدو أنه تذكرني فأنا كم مُهمل غير مرئي لأحد، لكنه تذكر عمي وزوجي. سألني عن أحوالي فأخبرته أني أقيم وأعمل هنا فأعطاني رقم هاتفه وسجل رقمي ليطمئن علي بعد انصرافي، وأخبرني أنه أيضًا يعمل هنا ويترك ابنتيه مع جدتهما لأمهما بعد وفاتها في حادثة. رأيت الحزن في عينيه فواسيته ببضع كلمات وانصرفت وأنا أتساءل لم يضعه القدر في طريقي مرة أخرى كلما اقتربت من النسيان؟
اتصل بي للاطمئنان علي فأجبته بكلام مقتضب وقلبي يرقص طربًا لاهتمامه بي، فتلك أول مرة في حياتي أحظى باهتمام إنسان، وليس أي إنسان بل حبيب القلب وحلم العمر. استمرت الاتصالات بيننا حتى أخبرني مرة أنه يشتاق للطعام البيتي فأعددت له الطعام وذهبت أمام المستشفى في موعد انصرافه وأخبرته بخجل أني أعددت له طعامًا كنوع من الشكر على ما فعله معي. أصر على أن نذهب إلى أحد المقاهي وتناولنا الطعام معًا وشربنا الشاي وفاجئني برغبته في الزواج بي لأنه يراني طيبة وسأتقي الله في ابنتيه اللتين تفتقدانه ولكنه لا يقدر على رعايتهما وحده ويحتاج إلى إنسانة رحيمة مثلي لتعتني بهما.
وافقت على الفور وأنا أكاد أطير فرحًا، فها هو حلم العمر يتحقق دون أن أحسب حساب ذلك أو أخطط له. حلقت في السماء مع الطيور من فرط سعادتي رغم علمي أنه لا يحبني إنما يحتاجني من أجل ابنتيه. لم أهتم فعندما أغمره بحبي وحناني ويرى اهتمامي بابنتيه سينساها ويحبني، هكذا أوهمت نفسي. تزوجنا خلال أقل من شهر بعد أن أعد الشقة التي يستأجرها لأنه لم يستطع العيش في شقته السابقة فالذكريات كانت تداهمه. لكن بعد زواجنا أدركت أن الذكريات كانت جزءًا منه لا يرغب في التخلي عنها فهو يعيش معها وبها حتى أنه يناديني باسمها حتى في أثناء علاقتنا الخاصة.
اليوم بعد مرور أكثر من عامين على زواجنا مازال يفكر فيها ويهيم مع ذكرياتها التي لم يستطع حبي واهتمامي أن يمحُها أو على الأقل يزيحها من قلبه. كان بالنسبة لي روحي وقلبي وعشقي والهواء الذي أتنفسه وكنت بالنسبة له مجرد جوازة والسلام. لم أطلب منه سوى مكان في قلبه ونظرة حب مما يمنحها لبقاياها، وقليل التقدير لكن يبدو أن دوري في حياته كان محددًا من قبل. أنا مجرد بديل هامشي ضعيف ليس له مطالب والطبيب الكبير مجرد حلم لأمثالي.
يبدو أن الحب ليس قدري وأن الاهتمام مُحرم علي وكأن أمثالي خُلقن ليمتص الآخرون رحيقهن دون مبالاة بمشاعر أمثالي ودون منحهم أية حقوق. كنت أظن أن في الحب نجاتي ولكن اكتشفت أن فيه هلاكي فلا أنا نعمت به ولا أنا حققت حلم الأمومة فقد حرمني منه زوجي الذي لا يرغب في الإنجاب مني فهو يراني مجرد وسيلة لمتعته ومُربية لابنتيه ولكني لا أصلح أن أكون أمًا لأولاده فأنا غير مُتعلمة بما يكفي ولا أصلح لتربية طفل، كما أنه مازال يخجل أن يخرج معي أمام الناس فأنا أقل من مستواه بكثير. رغم كل شيء مازال قلبي يعشقه ويرفض أن يبتعد عنه على أمل أن يحبني يومًا. قتلني الحب كما قتلني الكُره والقسوة ولم يرأف بقلبي أحد.
تمت