الساعة كانت تقترب من الثانية بعد منتصف الليل حين سمع سكان حيّ "الزيتون" صوت الزجاج يتحطم في العمارة القديمة عند ناصية الشارع. لم يجرؤ أحد على النزول، فالمطر كان يهطل بغزارة، والرياح تُصفّر في الممرات الضيقة كأنها تصرخ في وجه الليل.
في الطابق الثالث، كانت الشقة رقم (٣١) تغرق في ظلام شبه تام، سوى من ضوء شاشة حاسوب لم يُغلق بعد. على الكرسي المقابل، جلس رجل في منتصف الأربعينيات، عيناه مفتوحتان على اتساعهما، والدم يسيل من زاوية فمه.
الشرطة كتبت في تقريرها أن اسمه عمر الجندي، محاسب في شركة مقاولات كبيرة، يعيش وحيدًا منذ طلاقه قبل عامين.
لكن الأهم هو تلك الورقة الموضوعة بعناية بجانبه، كتب عليها بخطٍ ثابت:
"الخطوة الأولى تمت."
حين وصل المقدم هاني الفيومي إلى مسرح الجريمة، كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرًا.
نزع قفازيه المبللين، وحدّق في الجثة طويلاً، ثم قال بصوت خافت:
– ليس انتحارًا، زاوية إطلاق الرصاصة تختلف عن اتجاه كسر الزجاج بعد خروجها من رأسه .
اقترب منه الرائد حسام وهو يضع المظلة جانبًا:
– لكن الباب كان مغلقًا من الداخل يا فندم، ولا أثر لاقتحام.
أجابه هاني:
– إذًا القاتل لم يخرج… أو لم يكن إنسانًا.
ابتسم حسام :
– تعني أن أحدهم خرج بطريقة غير مرئية؟
قال هاني بهدوء:
– لا، أعني أن هناك عقلًا ما يريد إرباكنا، وتشتيت تركيزنا.
رفع هاني الورقة الصغيرة بعناية ووضعها في كيس الأدلة.
"الخطوة الأولى تمت."
قالها في نفسه مرارًا كأنه يحاول أن يفهم لغزها.
في تلك اللحظة، رنّ هاتفه. كان الصوت قادمًا من رقم مجهول.
– المقدم هاني الفيومي؟
– نعم، من المتحدث؟
– لا يهمّ الآن… فقط أخبر زملاءك ألا يبحثوا عن "الخطوة الثانية"، لأنها ستحدث قريبًا جدًا.
ثم انقطع الخط.
وقبل أن يُغلق هاتفه، تلقى رسالة نصيّة قصيرة، تحتوي على صورةٍ باهتةٍ لوجهه… أثناء وقوفه أمام باب الشقة رقم (٣١).
________
صباح اليوم التالي كان رماديًا كأنه لم يفق بعد من كوابيس الليل.
في مكتب المباحث الجنائية، جلس المقدم هاني الفيومي يراجع تقارير المعمل الجنائي، وعيناه لا تكفان عن العودة إلى تلك الجملة التي وجدها قرب الجثة:
"الخطوة الأولى تمت."
رفع رأسه متعبًا، وقال لزميله حسام:
– لا أدلة سوى الرصاصة، لا توجد بصمات تماما.
في الطابق السفلي من المبنى، كانت مها، خبيرة تحليل البيانات في قسم الجرائم الإلكترونية، تعمل على تتبع الرقم الذي اتصل بالمقدم.
قالت وهي تعدل نظارتها:
– الرقم محجوب، لكنه مرّ عبر خادم إنترنت تابع لشركة في أوروبا الشرقية. لكن الغريب أن المكالمة سُجلت قبل ثلاث ساعات من وقوع الجريمة.
----------
في حي الدقي، داخل شقة فخمة في عمارة قديمة الطراز، وُجدت سيدة خمسينية تُدعى ليلى خطاب، مديرة سابقة في بنك استثماري، مقتولة بالطريقة ذاتها. لا أثر لكسر، فقط دماء متناثرة، لا مقاومة، وورقة مطوية بعناية على المنضدة:
"الخطوة الثانية تمت."
نظر هاني إلى حسام قائلاً بلهجة صارمة:
– الآن تأكدنا أن ما يجري سلسلة قتل منظمة، لكنها بلا سبب معروف، و بلا توقيع .
اقترب من جثة ليلى، فلاحظ شيئًا لامعًا عند قدميها.
كان خاتمًا ذهبيًا بسيطًا منقوشًا عليه حرف (عمر).
نظر هاني إليه مليًا، ثم قال:
– "عمر" … عمر الجندي!!!!
ارتجف حسام، وقال بقلق:
– هل القاتل يربط بين الضحايا؟
– بالضبط. هناك خيط خفي، والرسائل ليست موجهة للضحايا، بل لي.
في تلك الليلة، جلس هاني في منزله، والملفّات مفتوحة أمامه، لكنه لم يكن يقرأها. كان يفكر في تلك المكالمة، وفي السؤال الذي بدأ يطارده:
من يراقب من؟
رنّ هاتفه مرة أخرى، نفس الرقم.
فتح الخط هذه المرة دون تردد.
– من أنت؟
– قلت لك من قبل.
– لماذا تتصل بي؟
– لأنك بدأت اللعبة منذ خمس سنوات، ونسيت.
سكت الصوت، ثم انبعث منه تسجيل قديم، صوت هاني نفسه، يقول فيه بوضوح:
"لن ينجو أحد ممن خان القَسَم."
أغلق الخط.
تجمّد هاني في مكانه، وقد تلاشت ملامح وجهه تحت ضوء المصباح الخافت.
همس لنفسه:
– خمس سنوات؟ أي قَسَم؟
ثم سمع صوت إشعار على هاتفه.
رسالة جديدة.
صورة للضحية الجديدة.
وتحتها عبارة واحدة:
"الخطوة الثالثة الليلة."





































