الأسطى (منصور) كائن لزج بمعنى الكلمة...
ولست أبالغ حين أقول إن لزوجته لم تكن صفة معنوية وحسب، بل حالة ملموسة.
كان كل من يقترب منه يشعر وكأن شيئاً ثقيلاً يلتصق بروحه، لا يزول ولا ينفك.
نظراته ليست عابرة، بل غوص متعمد في أسرارك، في طعامك، في خطواتك، وحتى في أحلامك.
في حارتي الضيقة التي بالكاد تتسع لعربة يد، كنت أبحث عن حياة هادئة: صباح صافي، جدران ساكنة، وجيران يكتفون بالسلام، لكن الحلم كان يتبخر مع أول جملة يتفوه بها منصور، جارنا الذي جمع بين مهنة الحلاقة وفن التطفل.
لقد نصب كرسيه أمام باب بيتي مباشرة، كأنه بوابة لا يمكن عبورها إلا بتذكرة من لسانه.
أي شخص يمر يصبح زبونا، أو على الأقل موضوعاً لثرثرته:
_أراك متأخراً اليوم... هل طُردت من عملك؟
_تشتري البيض كثيرا... لم لا تربي دجاجا في شقتك؟
_من هذه المرأة التي زارتك بالأمس؟ أهي أختك حقاً؟
كنتُ زبونه الدائم دون أن أجلس يوما على كرسيه. كلامه يلاحقني أكثر من مقصه.
عندها أيقنت أن تجاهل اللزوجة لا يمحوها... وأن عليّ أن أنصب له فخا.
انتظرت الفرصة حتى التقطتُ خيط (طمعه)، أخبرته كمن يبوح بسر ثقيل، أني وجدت في بدروم البيت صندوقا قديما، ربما كان مليئا بالذهب والعملات النادرة، لكنه ثقيل لا أستطيع حمله وحدي.
رأيت بريقا في عينيه يشبه لمعان مقص تحت شمس الظهيرة. لم يصدّقني بالكلمات، لكنه آمن بحكاية الصندوق أكثر من أي شيء آخر.
في البدروم
انتظرت الليل، وتهيأت...
ارتديت ثوبا أبيض فضفاضا، ورسمت على وجهي خطوطا شاحبة بالفحم، وأعددت صوتا أجشّ كأنه يأتي من بئر سحيق.
كنتُ أنا الشبح الأبيض.
تسلل منصور إلى البدروم بخطوات قطّ، عيناه تتأرجحان بين الخوف والطمع.
هناك في الركن البعيد كان الصندوق بانتظاره.
اقترب، يمد يده المرتعشة، ويفتح الغطاء...
فانبعثت أمامه هيئتي: جسد أبيض طويل، عينان متقدتان، وصوت يهدر في الظلام:
_أيها الدخيل... هذا المكان ليس لك. من يقترب من صندوقي... يصبح حبيس الأرض مثلي!
تسمرت قدماه في الأرض، ثم ارتجف جسده كله كقشة في مهب الريح.
حاول أن يصرخ، فتلعثمت الكلمات بين شفتيه، ثم انفجر صراخه مدوياً.
جرى نحو الباب يتخبط، يصطدم بالجدران، حتى خرج إلى الحارة وهو يصرخ: "شبح! شبح في البدروم!"
استيقظ الجيران على صرخاته، رأوه يركض عاريا من كبريائه، يلهث كمن رأى الموت. لم يجرؤ أحد على النزول معه، لكنهم صدقوا عينَيه المرتجفتين وصوته المبحوح.
منذ تلك الليلة، لم يعد منصور كما كان.
لم يعد يتطفل، ولا يثرثر.
جلس على كرسيه صامتاً، يمر الناس أمامه فلا ينبس بحرف ، كلما نظر إليه أحد، بدا كأن صدى صرخة البدروم
ما زال يطارده.
أما أنا، فقد نلتُ راحتي، وصاروا يذكرون حكايتي همسا:
"في الحارة شبح أبيض... لا يظهر إلا لمن يتطفل."






































