في نهاية المكالمة انحدرت الدموع من عيني وقلت لها:
"من كل قلبي تشرفت بالحديث مع سيدة عظيمة مثلك يا ست سعاد"
*** (١) ***
كانت، سعاد نايل سلطان إبراهيم، طفلة صغيرة، تلهو فى شوارع إحدى قرى مركز الواسطى فى محافظة بنى سويف، عندما مات أبوها فجأة وهو ما يزال فى ريعان شبابه تاركا وراءه زوجا عمرها 32 عاما يوحى وجهها بجمال ريفى وعزيمة صلبة، غير أنها مثقلة بحمل لا تدركه الجبال، فقد غادر الحياة وتركها وحيدة من دون ظهير أو تركة أو مال، مع إثنى عشر طفلا لم يتعلموا بعدُ شيئا عن الحياة.
كبرت سعاد ونما عودها، وورثت عن أبيها عزة نفسه وعن أمها عزيمتها وعنفوانها وصلابتها، وعندما أكملت عامها الرابع عشر، أصبح اجتماع جيدها مع قدها، وكأنهما تجسيد لشجرة توت يافعة تنتظر أن تطرح ثمارها التى تطيب لها الأبدان، ولأنها جميلة الوجه ودقيقة الملامح ونضرة البشرة وأهلها طيبون؛ فقد خطبها عامل لحام من منطقة شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية.
لم تفرط أم سعاد فيها بسهولة؛ فقد كانت أحب بناتها إلى قلبها؛ لكن الحمل ثقيل والأيام تمضى بجنون وتكاليف المعيشة لا تنتهى، ووقتها وتحديدا فى العام 1990 كان مناسبا أن تتزوج فتاة فى مثل قوام سعاد من ابن الحلال الذى سيرفع عن كاهل الأسرة نفقات أحد أفرادها.
مضت سعاد مع زوجها وأحبته بشدة، وأصبح رجل حياتها الوحيد، لم تعرف معنى الحب إلا بعد أن رأته، وقبله لم يمسها بشر، ولم تكن تفكر يوما فى أن يتعلق قلبها إلى هذا الحد بشاب من محافظة بعيدة ومن مكان بعيد على أطراف القاهرة الكبرى المزدحمة دائما والتى لا تناسب طبيعتها الريفية الهادئة والوديعة.
*** (٢) ***
فى المنزل رقم 17 بشارع مختار مطر، خلف مخبز المدينة المنورة، بشبرا الخيمة، أقامت سعاد مع زوجها وباتت الحياة هنيئة على نحو محمود، تستيقظ فى الصباح الباكر وتوقظ زوجها وتعد له إفطاره قبل أن يذهب إلى عمله فى ورشة اللحام، وتنتظر حتى آخر النهار تنظف البيت وتهيئ له سكنا مفعما بالمودة والرحمة التى تعلمتها عندما كانت صغيرة فى بعض آيات القران بكُتّاب قريتها البعيدة بمركز الواسطى حيث المكان الذي ولد فيه الإمام البوصيري.
الحياة تمضى بهدوء وجمال، والحب يغطى بظلاله الكستنائية جثوم الليل على المنزل في شبرا الخيمة، وكانت سعاد ودودا ولودا بالمعنى الحرفى للكلمة؛ تلد ولدا من بعد ولد وبنتا من وراء بنت، حتى أكملت الستة أبناء لزوجها ومعشوقها ورجل حياتها الأوحد.
أنجبت محمود ثم محمد ثم حسام ثم إسلام ثم إحسان، وأخيرا حبيبة، التى تدرس فى الصف الخامس الابتدائى، وما إن بلغ ولدها البكرى محمود عامه السابع، إلا والقدر يغير موقفه من حياتها ويحولها من امرأة هانئة مستقرة إلى زوجة لرجل عاجز كفيف، لا يقوى على العمل ولا يقبله أى صاحب ورشة.
منذ نحو عشرين عاما، وحين كانت لم تفرغ من عملها فى المطبخ حيث تجهز طعام زوجها والأولاد، حمل الجيران إليها خبرا غير حياتها كليا، فقد أصيب زوجها بالعمى من جراء الشرر المتطاير من الحديد إثر عمليات اللحام المتواصلة يوميا، ولأنه كان لا يرتدى نظارة اللحام؛ فقد أثر الشرر على عينية وأحال ماءها إلى نهر جارٍ رأى قطراته على الأرض وكانت تلك القطرات هى آخر شيء يراه فى الحياة.
*** (٣) ***
واجهت سعاد لحظة الحقيقة بمفردها، كيف تربى الأولاد؟ وكيف تنفق على علاج زوجها الذى لا تأمين صحى له؟ وكيف تواصل الحياة بمأكلها ومشربها وهى لا ورث لها ولا ظهير؟ وكيف سيكمل الأولاد تعليمهم أو حتى سيتحصلون على أقوات أيامهم؟ أسئلة كثيرة دارت فى رأس سعاد غير أن إجاباتها الوحيدة كانت فى ضرورة أن تخوض سوق العمل لأول مرة فى حياتها وهى الشابة السمراء الجميلة رائقة البشرة وواسعة العينين والتى لم تبلغ من عمرها سوى 21 عاما فحسب.
عملت سعاد بائعة فاكهة متجولة وبائعة خضار تقلب قفصا خشبيا على وجهه وتضع فوقه الجرجير والكرات والبقدونس وتحصل لأولادها الستة ما يسد الرمق بالكاد، ولأن بيع الخضار لا يكفى إطعام رجل وستة أولاد؛ فقد قررت أن تناضل ضد الطبيعة وتعمل فيما لا تتحمل الأنثى الرقيقة تحمله.
عملت فى محل لبيع الفراخ وعملت صبية جزار فى محل لبيع اللحوم وخدمت فى البيوت تنظف السجاجيد وتمسح الأرضيات وتلمع الحوائط والأثاث، ثم انتقلت إلى ما هو أصعب وأشق عشرات المرات، عملت فى رفع الأسمنت والحديد فى مجال المعمار، عملت "فواعلية" عن طيب نفس وسلمت أنوثتها ونعومتها بكل حب لوجه الله ووجه العمل الشريف الذى تربى من خلاله أولادها على النهج القويم.
كبرت سعاد وبلغت من العمر 41 عاما بعد أن مضى على مرض زوجها 20 عاما بالتمام والكمال، فكرت فى أن تستأجر تروسيكلا وتبيع الحلوى والمخبوزات به أمام محطة مترو كلية الزراعة فى شبرا الخيمة على مقربة من بيتها.
تستيقظ من نومها فى الثانية والنصف بعد منتصف الليل، لتكون فى تمام الثالثة فجرا أمام مخبز القرص والمعجنات، وتحمل بضاعتها على التروسيكل ثم تذهب إلى محطة المترو تبيع للمارة وتعود فى آخر النهار منهكة لا حول لها إلا أنها تبيت ويدها ناصعة البياض شريفة لم تستخدم أنوثتها ولا جمالها فى ما يغضب الله.
*** (٤) ***
سعاد قالت لي إن ابنها أحد المجندين فى صفوف القوات المسلحة، وخدم فى سيناء فى أكثر مناطق الخدمة العسكرية المصرية اشتعالا، وبالرغم من خطورة الأوضاع إلا أنها علمت ابنها ألا يتخلف عن أداء الواجب وكانت تشجعه على القتال فى صفوف الجيش وأن يقوم بواجبه كجندى يتحمل أمانة الدفاع عن حدود الوطن وأمنه وسلامته.
سألتها عن ما تشتهيه أو تتمناه، فأكدت لي أنها لا تريد من الحياة إلا الاطمنان على البلد وأن يكون كل ابن بار بأمه لأن المرأة المصرية ـ فى تصورها ـ تتحمل الصعاب وتتحمل المسؤولية كالرجال أو تزيد.
وبالرغم من فقرها وعوزها إلا أنها أوتيت عزة نفس منعتها حتى من أن تطلب من أهل الخير شراء التروسيكل الذى تستأجره بعشرين جنيه يوميا، وهى السيدة التى نضب جسدها وتحتاج إلى كل جنيه لاستكمال الحياة، لكنها رزقت بما هو أعظم من المال:
الكرامة وعزة النفس وسلامة الضمير.