خمسة وعشرون عامًا، ولا تزال تحمل ذكرى ما عانته وهي بعمر ابنتها الآن.
خمسة وعشرون عامًا منذ أوقفها جارهم وهي عائدة من مدرستها الواقعة في أول الشارع الذي تسكن فيه، كانت حينها في الصف الأول الابتدائي، وبعد أن أوقفها سألها وهو يمسح على رأسها: على فين يا أمورة؟
فأجابته: مِرَوَّحَة يا عمو .. أخدنا واجب آاااد كده، فتلفت حوله .. رفع عينيه إلى البلكونة حيث تنتظرها أمها كل يوم فلم يرها، ثم اقترب منها وأشار بيده الأخرى لأعلى:
- إنتي عارفة إن الحَمَام إللي في الغِيَّة فقس وطلَّع زغاليل صغيرة حلوة زيك؟ تحبي تشوفيهم؟
لمعت عيناها وهي تجيبه:
- الله .. عاوزة اشوفهم .
فاصطحبها معه إلى السطوح، حيث عُلَب الصفيح معلقة على الجدران تطل منها حمامات كبيرة، وطلب منها أن تصعد أمامه على السلم الخشبي لترى الزغاليل الصغيرة داخل الصفائح، كان يمسك بها قائلاً:
- متخافيش همسكك علشان متقعيش .. أمسكها من وسطها ورفعها أمامه لتراهم، كانت ذراعه تطوق وسطها بينما يده الأخرى تتحرك على ساقيها، حينها شعرت به يضغطها أمامه ويحتك بأسفل ظهرها فحركت قدميها ودفعت بنفسها للأسفل لتفلت منه، فبادرها بالسؤال وهو يلهث بجانب وجهها:
- إيه مش عاوزة تلعبي معاهم؟!
فهزت رأسها بالرفض :
- لأ .. عاوزة اروح ..
كان يرفعها أمامه وهي ترفض وترفس بقدميها، تكاد أن تبكي، كانت يداه تمسكانها بعنف متزايد كلما حاولت الفكاك منه والابتعاد عن جسده الملتصق بها، فأنزلها، ثم أخرج من جيبه جنيهًا ورقيًا ودسه بيدها:
- خدي هاتي حاجة حلوة ..
وتركها تمشي.
عندما خرجت من منزل جارهم كانت أمها تقف في البلكونة تنتظرها كعادتها، وحين رأتها تخرج من هناك ضربت يدها على صدرها وتوعدتها بعلقة ساخنة، هذا ما فهمته من أصابعها حين أشارت لها بالطلوع.
ما إن دخلت من باب الشقة حتى شدتها أمها من ملابسها ودفعتها أمامها :
- نازلة ليه من بيت الجيران؟ .. كُنتِ فين؟!
فأخرجت من جيب مريلتها الجنيه ترفعه بين أصابعها:
- عمو أخدني السطوح ورفعني لفوق أشوف الزغاليل .. وعطاني ده أجيب حاجة حلــ ... .
لم تتم جملتها التي انقطعت بفعل اللطمة التي تلقتها على خدها، حتى لطمها ثانية صراخ أمها:
- إوعي تنطقي الكلام ده تاني . .
فانفجرت بالبكاء وهي ترفع يدها تحمي وجهها فوقع الجنيه على الأرض، لم تكن تفهم ماذا يستدعي أن تجرجرها أمها خلفها إلى داخل الغرفة، ولا ما يثيرها إلى هذا الحد، كانت تزرع قدميها بالأرض وتحاول انتزاع نفسها من بين الأصابع التي تطبق على ذراعها وهي تبكي:
- معملتش حاجة سيبيني ..
إلا أن أمها جَرَّتها إلى الغرفة وأغلقت الباب خلفهما، دفعتها أمامها على السرير، استقرت على ظهرها، فهجمت عليها وانتزعت ملابسها الداخلية وتفحصتها جيدا.
الأم التي اطمأنت لم تكتفِ بذلك، قامت وأحضرت شمعة أشعلتها وهي تهددها بالحرق؛ إن تكرر ذلك، كانت هي تصرخ تحت يديها والسائل الساخن يكوي فخذيها.
لم تنس أبدًا بكاءها تلك الليلة، ولا ما عانته بعدها من وجع حَبَسَ أنفاسها وجعلها تطلق صرخة انشرخت لها أحبالها الصوتية حين أرادت قضاء حاجتها، ولا ألمها حين حاولت إنزال ملابسها الداخلية فوجدتها ملتصقة بفخذيها الملسوعين فانسلخ عنهما الجلد، وتسرب الماء الدافئ من بين ساقيها وهي واقفة، لم تنس أي من ذلك .. كما لم تنس حبسها بالمنزل الأيام التالية ثم مرافقة والدتها لها ذهابًا ورجوعًا من المدرسة، والتحذيرات التي كانت تطن بأذنيها .. والرعب الذي يصيبها كلما اقترب منها أحد.
رغم مرور السنوات مازال يؤلمها العقاب الذي نالته، وما زال يؤلمها تَذَكُّر صورة والدها عندما كان يرد تحية جارهم أو يجلس معه على المقهى يتناولان الشاي ويبادله الضحك، كانت تتمنى لو أخبرته بما فعل هذا الذي يجالسه، لينتقم لها منه وينال عقابه مثلما عُوقبت، لكن ها هي السنوات قد مرت دون أن تخبره .. كانت قد حاولت البوح مراراً، إلا أن صورة أمها وصوتها الذي يطن بأذنيها يأمرها بالصمت كان يسكتها رغما عنها.
هي الأن تجلس محتضنة ابنتها، وتضع أمامها مجموعة من العرائس، وقد أمسكت بيدها إحداهن تشير لها على مواضع معينة بجسد العروسة كانت قد غطتها ببعض القماش، وهي تكلمها بلهجة حانية وصوت هادئ :
- دنيا حبيبتي .. إحنا غطينا هنا ليه؟ .. وأشارت بيدها نحو العروسة ..
فأجابتها :
● علشان عيب ..
فاحتضنتها وقبلت خدها وهي تقول:
- شطورة .. علشان عيب وإيه كمان ؟
● وعلشان جسمنا محدش يشوفه ولا يلمسه ..
-ولو حصل غير كده؟
تابعت الطفلة :
● نقول لأ ونصرخ ..
فأكملت أمها:
- ونقول لماما وبابا ومنخافش .. فاهمة يا دنيا؟!
فتهز الطفلة رأسها بالموافقة ..
أما هي فتلاحقها الذكري .. تقتحمها وتعيد إليها كل لحظات الخوف والألم والخذلان، تمتلئ عيناها بالدموع وتفر متسربة على خديها، ولا يفيقها إلا يد ابنتها وهي تمسح على وجهها وتسألها:
- ماما بتعيطي؟ إنتي زعلانة؟
احتضنتها في صمت، ثم تركتها تلعب بالعرائس ودخلت غرفتها، أغلقت الباب خلفها وهي تمسح دموعها، وقفت أمام المرآة، رفعت القميص عن ساقيها ثم مدت يدها تتحسس على فخذيها علامات باهتة لحروق قديمة.