انشق عنها الشارع فجأة تعدو بين المارة، جسد نحيل في العاشرة يغطيه جلباب قديم مهترئ، وخصلات شعرها الذهبي تنفر من تحت ذلك الوشاح الذي يحيط براسها الصغير تقلب عينيها الزائغتين بين أمواج البشر، خوف وفزع يتملكانها بينما صدرها يعلو ويهبط بتسارع شديد، تستحث قدميها المجهدتين للمضي قدمًا.
بخطواتها المرتبكة تقطع الطريق وسط صرخات المارة وارتفاع نفير أبواق السيارات، متجاهلة أضواء إشارة المرور التي لا تفهمها، تلفتت يمينا ويسارا ثم قفزت فوق الرصيف، وقفت للحظات تسترد أنفاسها مرسلة بصرها نحو الرصيف المقابل، رأته يتلفت تتفحص عيناه المارة متحينا الفرصة لقطع الطريق والعبور نحوها، تشنجت يدها على الكيس البلاستيكي الذي تحمله وأطلقت العنان لقدميها فحملتاها لتختفي وسط المباني العالية.
من شارع إلى شارع أخذتها خطواتها ومع كل خطوة كانت تلتفت خلفها لتتأكد أنها ابتعدت وأنه لم يعد يتبعها ..
أخبروها في دار الرعاية أنها وُجدت تبكي في إحدى محطات مترو الأنفاق، طفلة في الخامسة من عمرها لا تعرف إلا أن يدها انفلتت من يد أمها وحملها الزحام بعيدا، لا تتذكر اسم بلدتها ولا تعرف عنوانا تخبر به أحدًا ممن اسوقفهم بكاءها، اسمها فقط هو الذي تتذكره بصوت بعيد يتردد داخل رأسها (همي يابديعة .. مدي رجلك).
داخل الشوارع الملتوية تكمل هروبها بينما تغرق خديها الدموع، حطت رحالها على أحد الأرصفة ملتقطة أنفاسها، ممدة رجليها تفركهما من الألم ملتفتة يمينا ويسارا تستكشف المكان حولها، اعتدلت وفتحت الكيس الذي تحمله وأخرجت منه كسرة خبز، قربتها من فمها لكن نشيجها منعها أن تقضمها، عادت بذاكرتها لذلك اليوم في الدار حيث وجدت نفسها وحيدة غريبة في مكان غريب، يقولون عنه دار رعاية أو (ملجأ للأيتام)، المعاملة السيئة كانت عنوان واحد لكل من تعامل معها هي ورفيقاتها، الملابس الجميلة والطعام الشهي لم تعرفهم إلا في مناسبات خاصة.
خمس سنوات قضتها في دار الرعاية تلك لم تعرف فيهم إلا الخوف والجوع، لم تشعر بالدفء ولم تغمض عينيها باطمئنان، كل ليلة تتكور على نفسها تحت الغطاء تضع يديها على أذنيها وتراقب بعينيها ذلك الشبح، الذي يتسلل إلى العنبر في الظلام وبأقدام خبيرة بالمكان، يتحرك نحو الأسِّرة بهدوء من يعرف هدفه .. ثم يخرج ساحبا إحدى رفيقاتها، التي تعود بعد بعض الوقت لتتكوم في السرير المعدني تبكي وتئن، وفي اليوم التالي تراها وقد انطفأ الضوء بعينيها وليلة بعد ليلة تذبل وتنزوي ولا تنطق بكلمة عما حدث، إلى أن جاء اليوم الذي أُخذت فيه صديقتها المقربة ولم تعد بعدها، والكلام الذي سمعته في اليوم التالي عن العثور على جثتها التي غطت الدماء نصفها السفلي.
الخوف الذي منعها من النوم والذي تضاعف تلك الليلة حين توقف الشبح عند سريرها وامتدت يده لتعبث بجسدها المرتجف، ليتردد الصوت بقوة في رأسها (همي يابديعة .. مدي رجلك) فمدت يدها وقبضت على الكيس الذي كانت تخبئه تحت وسادتها، ثم اندفعت تقفز من السرير مهرولة فاندفع خلفها محاولا عرقلتها والقبض عليها، كانت تعبر طرقات الدار تتخبط في الحوائط، ثم تتدحرج على السلالم .. يلاحقها دبيب أقدامه وصوت لهاثه .. إلى أن وجدت نفسها بعد دقائق في الشارع فأطلقت لقدميها العنان .
عادت تتلفت حولها مرتعبة من ظلام الليل، لملمت قدميها تحت جلبابها وانزوت خلف إحدى السيارات الواقفة بجوار الرصيف، قربت قطعة الخبز إلى فمها وأخذت منها قضمة مضغتها بين أسنانها، اقترب أحد كلاب الشارع يتشممها فمدت له يدها بقطعة الخبز، نظر إليها ثم التقطها وجلس يأكلها ثم نام مطمئنا بها؛ فغفت بجواره.