آخر الموثقات

  • ق.ق.ج/ نفاق السراب
  • ق.ق.جدا/ غيبوبة
  • تغريد الكروان: رحمة تتنزل
  • التعامل مع ورق الشفااف
  • بأن تثق ..
  • لولا التأني ..
  • شتراوس بالزنجبيل احمدك يا رب - ابنك مجنون يا حاج - الحب هو الغاز الذى نشعل به البوتجاز -)
  •  قراءة نقدية في رواية "البتراء"
  • دنيا ومتلونة
  • خاتم ...
  • فيروز هي بلدي
  • ميشيل سافيني .. رمز الدبلوماسية الراقية
  • النتيجة سيخسرون
  • قلوب قاسية على الأرض
  • كأنني لم أكن... فقط ظلٌّ يمشي فوق الأرض.
  • بين الوطن والمنفى.. عامٌ من الغياب والبصيرة
  • ناجحوا التيك توك القدوة
  • تغريد الكروان: مرآتي
  •  عائلة يعقوب (بني يعقوب) سيئة السمعة
  • تغريد الكروان: اللامبالاة
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة مها الخواجه
  5. دراسة نقدية للمجموعة القصصية (لفحات أغسطس)

(رمزية الأشياء وبوح الذوات الهشة)

قراءة نقدية بقلم/ مها الخواجه 

في المجموعة القصصية (لفحات أغسطس) 

للكاتب/ سيف بدوي ..

والصادرة عن دار منازل للنشر والتوزيع

والمشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب للعام الحالي

 

في مجموعته القصصية "لفحات أغسطس"، يقدّم لنا الكاتب عمله القصصي الأول، لكنه لا يبدو كخطوة أولى متعثرة، بل كحصيلة ناضجة لتجربة طويلة في القراءة والملاحظة والنقد، والتي تظهر جلية في نضج البناء السردي، وتماسك الرؤية الإنسانية التي يتبناها، فمنذ الصفحات الأولى، نرى امتلاك الكاتب وعيًا فنيًا واضحًا، وأسلوبًا ناضجًا يخترق العادي والمألوف ليكشف عن أوجه خفية من الحياة .. فهي مجموعة تنحاز بوضوح للإنسان المهمّش، للحزانى والمقهورين، إذ تفتح لنا "كاميرا" متعددة الزوايا تلتقط تفاصيل الحياة من أماكن مهملة وبعيدة عن الأضواء...

 

📝 إهداء يتسع للحنين

يفتتح الكاتب مجموعتة بإهداء مقتضب يتكون من ثلاث كلمات هن: 

"إلى .. تلك .. الأيام"، 

عبارة قصيرة لكنها تنفتح على عوالم الذكرى والحنين، وتغلف المجموعة كلها بروح النوستالجيا .. بهذا الإهداء نُدرك أننا مقبلون على رحلة تمزج الذكرى بالحنين، والحاضر بالزمن الماضي، إذ يبدو أن تلك "الأيام" لم تكن فقط تاريخًا في ذاكرة الكاتب، بل كانت أيضًا بوصلة سردية تهديه نحو شخصياته، نحو الأماكن التي كتب عنها، ونحو التفاصيل التي حرص على توثيقها، كأنها جزء من حياة يخشى عليها من الاندثار.

 

📌 لغة المجموعة: بين الفصحى والنبض الشعبي

 

ينحاز سيف بدوي إلى الفصحى الرصينة في السرد، فنجد الجمل المكثفة، والعبارات الموجزة، المشحونة بالدلالة، بينما يأتي الحوار بالعامية المنتمية لبيئة الشخصيات، ما يضفي طابعًا واقعيًا حيًّا على النصوص، حيث يملك الكاتب قدرة على التوازن بين لغة السرد الراقية ولغة الحياة اليومية، دون أن يسقط في فخ التكلّف أو الابتذال.

 

📍 البناء القصصي:

سرد بلا مقدمات .. ومشاهد نابضة بالحياة

 

يمضي سيف بدوي إلى صلب الحكاية دون مقدمات إنشائية أو تزويق لغوي، فاتحًا المشهد السردي مباشرة على صراعاته الإنسانية، يستخدم تقنية "المشهد المصور" بحرفية، فتصبح القصص كما لو كانت لقطات سينمائية دقيقة، مرهفة، ومشحونة بعاطفة جمالية وإنسانية، وهو ما يظهر بجلاء في قصص المجموعة الخمس عشرة، حيث ينهض كل نصّ على ثنائية الألم والأمل...

 

قدم لنا الكاتب فيها تجربة سردية مشحونة بالحساسية والعمق، تستبطن الذوات المهمشة في عوالمها الصغيرة، وتستلهم تفاصيل الأشياء اليومية كمرآة لصراعات كبرى، نفسية واجتماعية وثقافية...

 

وفي رأيي أن ما يميز هذه المجموعة أنها لا تعتمد على الحدث فحسب، بل تتخذ من التكوين النفسي والوجداني للشخصيات محورًا لبناء الحكاية، تتنقل القصص بين الريف والمدينة، بين الطفولة والكهولة، بين زمن التماسك وزمن الانهيار، لكن الرابط الخفي بينها جميعًا هو تمجيد التفاصيل الصغيرة وإضفاء قيمة سردية على المهمل والمنسي.

 

إذ يبدو جليا لنا أن سيف بدوي في "لفحات أغسطس" يتقن التقاط لحظة التحول؛ لحظة الخروج من بيت، من قناعة، من وهم، من دور اجتماعي، فشخصياته لا تصرخ، لكنها تهمس، لا تنتفض، لكنها تنكمش وتتوارى، متمسكة ببقايا كرامة أو ذاكرة.

 

المجموعة إذن ليست مجرد سرد، بل هي محاولة لتفكيك الواقع عبر رمزية الأشياء، عبر بوح الأرواح المنهكة التي غالبًا لا تجد من يصغي، إنها كتابة من الداخل، أقرب إلى البوح منها إلى القص التقليدي، ولعل قوتها تكمن في قدرتها على جعل القارئ يلتقط أنفاسه بين السطور، ويشعر بثقل تلك التفاصيل التي نمر بها يوميًا دون أن نمنحها انتباهًا.

 

📌 سأتكلم هنا استدلالا ببعض القصص، ربما يتسع لي الوقت فيما بعد للكتابة عنها جميعا..

وسأبدأ من قصة: 

"التين وعسله" ص ١٩: 

حيث المفارقة بين الحلو والمر

إذ يعكس لنا الكاتب ببراعة واقعًا اجتماعيًا قاسيًا، يعبر عن حياة شخصية بسيطة وفقيرة، يكابد فيها البطل لأجل لقمة العيش، مما يبرز الإحساس بالمعاناة اليومية والحاجة الماسة، وقد جمع النص بين عنصرين أساسيين، أولهما: الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية(بائع التين الشوكي)، والذي يتسم بالشرود والهروب من الواقع من خلال تعلقه بالعلاقة المبدئية مع الفتاة التي يتعرف عليها أثناء شرائها التين، وثانيهما: المعاناة الخارجية التي تجسدها الشرطة والمجتمع الذي يتعامل معه بقسوة.

 

فالأسلوب السردي هنا يتسم بالتفاصيل الدقيقة التي تبرز معاناته الجسمانية والنفسية، بما في ذلك تفاعلاته مع الأنثى، التي تضيف له لمسة إنسانية، وبينما يظل هناك شعور بالرجاء والتطلع للأفضل، فإن النهاية تجسد الواقع المظلم من خلال السلطة القامعة التي لا تترك للبطل مجالًا للتنفس أو الأمل، كما أن الازدواجية في الصورة بين العسل وشوك التين تعكس جمال اللحظات الصغيرة مقابل المرارة الناتجة عن القهر الاجتماعي.

 

ومن ناحية أخرى تُبرز لغة النص التوتر بين الفرد والنظام الاجتماعي القاسي، ويُستخدم التين كرمز للعيش البسيط في عالم مليء بالمعاناة، بينما تشكل العلاقة مع المرأة لحظة من العطف والدفء وسط قسوة الحياة، فإن تلك اللحظات تأتي وتذهب بشكل عابر، لتعود الأحداث إلى واقعها المظلم في النهاية.

 

قصة: "أمشاط من عظم" ص ٣٥:

قدر المهنة وصراع الطبقات

تُجسّد هذه القصة مأزق التوريث المهني،

 من خلال صديق الراوي الذي يرث مهنة صنع الأمشاط من والده، ونواجه التساؤل البديهي، هل تصلح بعض المهن لكل زمان؟!

 ‏فالأزمة هنا ليست أزمة الراوي ولكنها خاصة بصديقه، وقد تم توريطه فيها عن طريق توسيط الحبيبة له للوصل بينها وبين الصديق ..

 ‏

 ‏الراوي هنا وفي افصاح عن جزء من حياته وذكر لإخوته ووالديه المتوفيين، واحتفاظه بالسيارة -القديمة المعطلةـ لأنها تحمل رائحة والده وانطباع كفه على المقود، أعطانا إشارة عن وحدة هذا الشخص وتناقض حاله مع حال صديقه .. ذلك الصديق الذي يرى في حاضر أبيه مستقبله، فهو بتعلمه مهنة صنع الأمشاط من العظم، قد أصبحت مهنته مستقبلا .. وقد بين لنا الكاتب هذا عن طريق صورة الوالد التي كان فيها ظهره منتصبا، ثم الكلام عن أنه أخذ في الانحناء حتى أصبح عاجزا طريح الفراش ..

 

وفي تصعيد للأزمة وتعميق صورتها أخذ يشرح وصية والده له بتوليه العمل مكانه لتوفير مصروفات العائلة .. وأن عليه أيضا الادخار من الإيراد لبناء شقة له فوق بيتهم الملك -الخمسين مترًا-!

ثم يعلن له عجزه وضيق حاله إذ يقول أنه يدور ليجمع القرون ثم يعود لصناعتها أمشاطا بالنار وبعد كل هذا التعب لا أحد يشتريها ..

 

وفي إشارة لرفضه توريط حبيبته في ظروفه القاسية وخوفه من الفشل في المستقبل لعدم التوافق .. جاء ذكره وفاة أخته حرقا فوق منزلهم، وبما أن الكاتب لم يوضح السبب فهذا يجعلنا نعتقد إنها ربما تعرضت لأزمة نفسية أو عاطفية اوصلتها لهذا المصير المؤسف..

 

في محاورة بين الصديقين يسأل الراوي صديقه: ألا تحبها؟!

فيرد: (قلت لك لا أستطيع، لم أقل لا أريد) ص ٤٠، فأزمة البطل هنا أي الصديق مع حبيبته ليست فقط بسبب عمله، ولكنه التفاوت الطبقي الذي هو السبب الأساسي في إحجامه عن إتمام الارتباط بها، وذلك أظهره الكاتب في وصف ملابس الحبيبة وطريقة حديثها، مقارنة مع ملابس البطل وبيئته ووصف البيوت في شارعه بأنها تتساند على بعضها، ثم عمله أمام النار وتلك الرائحة التي تلتصق به لتذكره بأخته التي ماتت محترقة.. وحال والده الذي يذكره بما ينتظره، ليعلن يأسه من مستقبل غامض..

ويختتم الكاتب قصته بجملة واحدة: قلت لك لا أستطيع .. وهي إعلان ضمني من البطل برفضه الحياة كما عاش والده ..

 

أما عن "لفحات أغسطس" ص ٤٣: 

فهي قصة بحرارة الصيف وثقل الذكريات ..

تحمل القصة التي اختيرت عنوانًا للمجموعة أبعادًا رمزية تتجاوز الواقع الظاهري .. حيث يكتب بدوي عن هشاشة الشيخوخة، ووحشة الوحدة، ومرارة الفقد، بروح شاعرية عذبة .. فالقصة تحمل طابعًا توثيقيًا بصريًا حادًا، فالتفاصيل هنا تُكتب بالكاميرا لا بالقلم، كالألوان، الضوء، وقع الخطى، ‏لكن خلف الصورة الحسية، ينبض معنى وجودي، كانكسار الحلم، الشيخوخة والحنين .. فربما للوهلة الأولى يتراءى لنا من قراءة القصة أنها تحكي حدثا واقعيا لبطل القصة، ولكني هنا أجد أن الكاتب قد وضع كل الظروف والأسباب التي تدفعني للغوص في نفسية وعمق الشخصية، وما هو وراء أفكاره ومعاناته أو ما يعتمل داخل ذاته .. بداية من العنوان (لفحات أغسطس) وما نعيه من سخونة هذا الشهر، وهنا حيث بطل القصة نائما تداهمه ذكرياته التي تطرق عقله، تزاحمها تلك الدقات العنيفة الآتية من الواقع (دقات الهون) فتئن روحه من وطأتها، حاله بين النوم واليقظة يدفعه بقوة لإيقاف هذه الدقات فيتخذ قراره بالتصدي لها، عند قيامه يتشبث بدُرج التسريحة المفتوح والذي تيبس هكذا منذ زمن، وهو هنا كرمز يشير لسن هذا الرجل، الذي قد تكون مفاصله تيبست مثل هذا الدرج، ويظهر تقدم السن أيضًا في تشبثه بدرابزين السلم اثناء الصعود، يصف لنا الكاتب نفسية الرجل وتحفزه لمواجهة جارته الست (امتياز) التي سنعرف أن اسمها هذا جاء مناسبا من وصف الكاتب لهيئة جسدها، فهي ممتلئة مكتنزة وتلك الصفات كانت سمات الجمال في هذا الوقت .. عند الصعود لشقتها ورؤيته لها جالسة على الكرسي الصغير ممسكة بيد الهون تدق كفتة الجمبري ومتابعته لتفاصيلها الأنثوية، تنتابه رجفة وتجتاحه مشاعر متباينة، إذ كيف يبرر صعوده وكشف ستر جارته في هذا الوقت؟ وقد حدده الكاتب هنا بوقت العصرية وهو وقت القيلولة والراحة وفيه يتخفف الناس من ملابسهم خاصة في هذا الطقس .. الأمر الذي جعله يتذرع بأي حجة، فطلب تلقيمة بن .. وقد وصف لنا الكاتب حركة الجارة وصفا دقيقا، طريقة كلامها والترحيب به، ومشيها حافية على أرضية الشقة وما اعتمل في نفسه من مشاعر بسببه، فتحين دخولها لتلبية طلبه وفر هاربا إلى شقته تصاحبه صورتها التي رآها عليها .. من حيث الأسلوب، نجد أن النص يحتوي على بعض الأسطر الطويلة المليئة بالتفاصيل والتي تعكس كثافة أفكار البطل وحالة الضيق التي يشعر بها، كما أن السرد يتنقل بين الفعل الخارجي للبطل (الذهاب إلى شقة الست امتياز) والعالم الداخلي له (ذكريات، مشاعر حزن، انعكاسات جسدية)، فهذا الرجل والذي نعرف من القصة أنه يسكن منطقة العطارين، تداعب أنفه روائح العطارة والبن المحمص المطحون، فتأخذه تلك الروائح مع حزنه وجوعه لذكريات زوجته التي رحلت، فيسترجع وجودها بجانبه، وترويحها عنه في مثل هذا الوقت، وتخفيف الحر بالتهوية عليه بقطعة من الكرتون، وتحضيرها كسرة الخبز بالجبن وفنجان القهوة وذلك الكوب المنتصب الممتلئ بالماء البارد -ولعلي هنا أرى إشارة ورمز آخر لحاله وحالته- .. بين واقع وشبيه حلم تعود الطرقات الملحة لتنبهه فيستيقظ على إثرها محصورا بمثانته الممتلئة، ليجد جارته قد أحضرت له طبقا من أصابع كفتة الجمبري المحمرة، وفنجان القهوة الممتزج رائحته برائحة عرقها -وقد جاءت هذه الجملة في غاية الروعة والتوفيق كإشارة لنَفَس المرأة وإجادتها لما تصنع- لتنهي معاناة يومه ويتحقق له ولو جزء بسيط من راحة تمناها.

 

وفي قصة: "العزال" ص ٥٣:

يقدم الكاتب لوحة سوسيولوجية بالغة الأثر، يعيد فيها تأطير طقس الانتقال من بيت إلى آخر، محمّلاً إياه بذاكرة جمعية تشي بهشاشة الاستقرار في مجتمعات الطبقة الوسطى وما دونها، تسير الحكاية بكاميرا متحركة داخل البيت، ترصد الكراتين، الأغراض المهملة، ووجوه الأطفال، كل هذه الأشياء تتحول إلى شخصيات صامتة، تشهد وتشارك في معاناة البطلة، وتفضح الغياب العاطفي القاتل ..

 

الوجع الصامت يفيض من كل ركن، لفتاة تستعد للخروج من بيتها الزوجي، ترتب أغراضها القليلة، وتغادر .. الحدث هنا ليس لحظة درامية فحسب، بل فعل رمزي كامل يفضح هشاشة مؤسسة الزواج عندما تُختزل في تقاليد باردة، خالية من التراحم، وتكمن براعة القصة في الاقتصاد اللغوي وفي التركيز على التفاصيل ... 

 

نعود للمشهد وهو لزوجة لم تتم عامها الأول في بيت الزوج، الذي هو بالأساس بيت العائلة، حيث تشاركها السكن حماتها الأرملة وثلاث أخوات لزوجها مطلقات مع أولادهن، ذلك البيت الذي نرى من الوصف تواضعه بل وأيضا إمعان ساكنيه في الفقر الذي يظهر في قول الكاتب: (تدب الحياة في الدار بعيال تشبه الجرذان، تخرج من الجحور وتعود إليها، تنبش أو تقرض كل ما تطاله) ص ٥٧

 

يظهر لنا السرد عدم التوافق والوفاق بين الزوجين لعلة ما في الزوج، الذي يقضي نهاره جالسا يناطح بيده ذكر الماعز في إشارة مضمرة لاعتزازه بالفحولة التي يستمدها منه ظاهريا، وهي باطنا ما ينقصه وتتستر عليه زوجته التي تشغل نفسها بترتيب الغرفة، ثم مفاوضة بائع الخضر والفاكهة وانتصارها المزعوم في صفقة الشراء، بينما ينشغل ليلا في جذب أنفاس الدخان من الجوزة التي تتوهج نيرانها ويخفي فيها ضعفه واختلال فطرتة، وبعدما يفرغ يتوجه للغرفة هذا المكان المغلق الذي يمثل له حصار خارجي وداخلي، ويعبر في دلالته عن الضيق والصعوبة والخوف، على عكس حال زوجته التي تتمدد على السرير مبحلقة للسقف تتأجج نار حرمانها ولا تجد منه ما يسد هذا الاحتياج .. دليل من القصة في الجزء الأول من الفقرة (ينهض وينسلخ من جلبابه ويلقي به على حديد السرير عند قدميه، ويرتمي بجسده ثانية فتتصنع الفزع.. وهو يتصنع التربيت على ظهرها كمن يعيدها للنوم.. ثم يترك يده على سجيتها لتنزل رويدا رويدا أسفل ظهرها) ص ٥٦، يعبر الكاتب بالتلميح عن غرض الزوج المخالف للفطرة، لنكمل باقي الفقرة (وهي تطلق زفيرها اللافح.. لا أكثر من ذلك ولا أقل) ص٥٧، وهذا تعبير عن رفضها وأن هذا الفعل صدر منه مرارا وتكرر رفضها.

 

ونجد أن الكاتب وضع أمامنا الكثير من الإشارات التي عززها بوصفه في حركات الزوجة أثناء ترتيب المكان، وأيضا طريقة حديثها وتعاملها مع زوجها فأخبرنا الراوي العليم أنها تعرف جيدا طريقته في الجلوس وقبوعه متململا في مكان واحد، وقد جاء الزمن في القصة غير تقليدي، حيث استخدم الكاتب مهارته وقدرته على التلاعب فنياً بمفرداته عبر تقنيات السرد الحديث كالقطع وهو عملية اختزال الزمن ومن ثم القفز والتداعى ثم الانثيال الحر والرجوع بالذاكرة (الفلاش باك)فقد بدأ الكاتب قصته بالعقدة التي هي الأزمة الأساسية، لينتبه القارئ في نهاية الفقرة الأولى لطلب الزوجة الطلاق، ثم عاد في مشهد آخر لليلة ماضية ليضع لنا خيطا نتتبعه لمعرفة سر هذا الطلب، والذي كان يضع حدا لمعاناة الزوجة .. 

 

فمن المتعارف عليه مجتمعيا صبر الزوجة وعدم بوحها باحتياجها أو الإشارة لعجز الزوج، وخصوصا في المجتمع الريفي كما عرفنا من وصف الكاتب للمكان والأسماء، كما ذكر لنا أيضا ألفاظا خاصة بهذا المجتمع مثل: (المندرة، الجلباب، قلاحات الذرة، حديد السرير) ولكن ما رأيناه هنا أن الزوجة تجرأت وباحت بما يرفضه العرف، وعرضت مظلمتها على أمها وأبيها لنرى تعاطف الأم مع معاناة ابنتها، بينما يعنفها والدها الذي رأى في كلامها خروج عن المألوف، وطالبها بحفظ بيتها من الخراب فاتهمته بعدم الإنصاف، فكان جزاؤها لطمة على الوجه .. بعدما أعلنت لهم معاناتها (مش طايقة ياما.. كده حرام)..

 

لتنتصر إرادة الزوجة المقهورة، ويلجأ والدها لإمام المسجد وكبار البلد لإيجاد حل والذي كان الطلاق .. ولكن أنى لها الهناء والسكينة وقد امتدت أياد الحماة والثلاث مطلقات- اللاتي من المتوقع نفسيا نظرا لحالتهن الاجتماعية أنهن كن يكِدن لها وتمتلئ قلوبهن غيرة وغيظا منها- لجمع ملابسها وربط عزالها وجمعه في صرر وإيداعها أذرع الأطفال لحملها إلى المندرة في انتظار العربة التي ستنقلها، والتي أشار لها والدها أنها عربة واحدة حزينة مثلها وليس في تسع عربات كما جاءت قبل الزفاف .. لتكتشف بعد التقليب في أشيائها اختفاء عددا من ملابسها الداخلية الخاصة، فتشتعل غيظا ويجتمع عليها وجع الطلاق وكسر خاطرها وسرقة فرحتها التي لم تتم .. ومع إنكار طليقها للسرقة، وتأكدها من عدم عودة المسروقات تسكت كبتا مبتلعة وجعها، لكنها وفي مشهد فارق صاغه الكاتب ببراعة سينمائية، جعلها تجمع عزالها الهزيل المنتقص وتودعه غرفتها التي شهدت خيباتها المتكررة، ونارها التي لم تنطفئ وباتت تأكل روحها كل ليلة، لتخرج من المنزل بثوب العروس -كما دخلته أول مرة- تاركة خلفها نيرانا تتأجج لتحرق ماضيها وما بقي من عزالها.

 

وفي قصة: "الليلة عيد" ص ٨٣: 

نرى هروب الخروف وفضائح البشر

في نص ساخر يبدأ بمشهد خروف يفرّ من صاحبه ليلة العيد، تتحول الحارة إلى شاشة عرض لعيوب الناس، يطيح الخروف بالأبواب والنوافذ، ويقتحم خصوصياتهم، كاشفًا زيف التدين، والمظاهر، والخلوات السرية، والأقنعة الاجتماعية .. النص شديد المهارة في تركيبه الزمني واللقطي، حيث يتحول "العبور" (الخروف) إلى كاميرا رصد، تتجول بلا رادع بين الناس، وتفضح ما خلف الواجهات المزيفة .. في رأيي الشخصي، "الليلة عيد" ليس مجرد نص عن مناسبة اجتماعية، بل هو تسليط ضوء على الغرائب البشرية وحالة التشتت التي يعيشها الأفراد في مجتمع محاصر بالتقاليد والعادات المتناقضة.

 

أما نص "قميص أصفر شفاف" ص ٩١:

فيعكس ببراعة الصراع الداخلي للشخصيات في مواجهة التناقضات والمشاعر المكبوتة، وذلك من خلال شخصية الباشمهندس حمدي، إذ يقدم لنا صورة شديدة السخرية والمرارة عن علاقة زوجية مملة ومأزومة، فضلاً عن ذلك يعكس لنا أزمة شخصية ناجمة عن التردد والاختلال النفسي بين رغبات الرجل وواقعه، وعلاقته بزوجته.

 

اعتمد الأسلوب السردي في النص على التفاصيل الدقيقة والوصف المكثف، وخلق حالة من التوتر والغموض يرافقها إحساس بالضياع، أما الحوار فيميل إلى السخرية اللاذعة، مما يعزز الإحساس بالمفارقة بين الأقوال والأفعال .. أبرز عناصر السرد هنا، هو عنصر المفاجأة في النهاية التي تتكشف تدريجياً للقارئ، مع التركيز على كيف أن الباشمهندس حمدي لا يعترف بحقيقة ما حدث، بل يلجأ إلى تبرير وهمي كاصطدامه بـ "بوز الرف"، وهو تبرير رمزي ساخر يشير إلى محاولة الهروب من مواجهة الواقع، فالنص ينطوي على العديد من الرموز والدلالات الاجتماعية والثقافية، فـ "القميص الأصفر" يمثل الرغبة المكبوتة، واستنزاف الأشخاص، والانتظار المستمر في الحياة الزوجية، كما أن شخصية "د. ماهر" تمثل ذلك الشخص الذي ينغمس في دور غير حقيقي، حيث يتحول من مجرد طالب في الطب إلى شخصية وهمية ذات سلطة في السياق الدرامي .. في النهاية، يقدم لنا الكاتب في نصه نوعًا من الهزل الاجتماعي القاسي - ما يطلق عليه الكوميديا السوداء- الذي يعكس التوتر بين التقاليد الاجتماعية والتغيرات الداخلية للأفراد.

 

في نص "اعرفها" ص ١٠٣:

عكس لنا الكاتب الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية، الذي يعبر عن الخوف والتردد في مواجهة الماضي والتجارب العاطفية، مبرزا التعبير عن الوحدة العاطفية والحيرة التي تصيب الفرد في لحظاتٍ فاصلة بين الفقد والتذكر، وتخلق صورًا مؤلمة عن عدم القدرة على التواصل مع ماضيه الذي لا يستطيع الهروب منه.

 

وقد اعتمد الأسلوب السردي على التدفق الداخلي للأفكار والعواطف، حيث تتداخل اللحظات العاطفية مع الذكريات والأحاسيس الخفية، الشخصية الرئيسية في النص اتصفت بالتردد والعجز عن اتخاذ موقف واضح، مما يضيف عنصرًا من الارتباك والتأمل في مصير العلاقات الإنسانية وما يترتب عليها من شعور بالذنب والندم.

 

وبالنظر في التباين بين اللحظات العابرة، حيث تتشابك الذكريات بحسرة ومرارة، وبين الواقع الذي يتم فيه إحياء تلك الذكريات بصورة مأساوية، كما في المشهد الأخير حيث تحضر الأم لتطلب المساعدة ولكن الشخصية الرئيسية تعجز عن الرد أو المساعدة، مما يسلط الضوء على عجز الإنسان أمام معاناة الآخرين، وإبراز ندوب الماضي التي لا تلتئم .. النص يعبر عن ألم الهروب من المسؤولية وتناقضات العلاقات التي تعود لتطارد الشخص في لحظات الوحدة.

 

📌 ختاما:

 

فإن لفحات أغسطس ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي شهادة أدبية على أوجاع المهمشين، ومرافعة إنسانية عن أولئك الذين لا صوت لهم، أثبت فيها سيف بدوي امتلاك قدرة فريدة على الغوص في أعماق النفس، والتقاط ما لا يُرى، وصياغته بلغة مجازية شديدة الحساسية والاقتصاد، فقصصه ليست فقط ما يُروى، بل ما يُلمَح ويُترك للقارئ كي يستكمله .. إنها مجموعة كُتبت عن "الألم الناعم"، بصوت خافت لكنه نافذ، وعن الحكايات التي لا تُقال غالبًا، إلا همسًا.

 

في لفحات أغسطس نرى قصص الحياة كما هي .. لا كما نتخيلها، يضعنا فيها الكاتب أمام المرآة، ويجبرنا على النظر إلى التفاصيل المهملة للحياة، إلى الوجع الصغير الذي لا يُقال، إلى الحنين الذي لا يُشفى، إنه لا يقدّم حكايات أسطورية أو نهايات وردية، بل يكتب عن الحقيقة كما هي: مشوشة، موجعة، متوهجة بالحياة رغم كل شيء.

 

📎 وفي رأيي الشخصي:

 

• أن "لفحات أغسطس" مجموعة تليق بهذا الزمن الهش، المتحول، والمتخم بالأسئلة.

 

• وأنها ليست فقط وعدًا بمستقبل قصصي لافت، بل تأكيد على أن الأدب لا يُقاس بعدد الكتب، بل بعمق التجربة وصدق الشعور، وهذا ما يقدمه سيف بدوي بإخلاص إنساني نادر.

 

 

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
3↑1الكاتبمدونة اشرف الكرم
4↓-1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↑1الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓-1الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↑3الكاتبمدونة هند حمدي
9↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
10↓-1الكاتبمدونة آيه الغمري
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑13الكاتبمدونة طه عبد الوهاب186
2↑11الكاتبمدونة نجلاء البحيري69
3↑9الكاتبمدونة داليا فاروق68
4↑8الكاتبمدونة حسين درمشاكي41
5↑8الكاتبمدونة حنان الهواري108
6↑7الكاتبمدونة غازي جابر24
7↑6الكاتبمدونة أسماء نور الدين65
8↑5الكاتبمدونة دعاء الشاهد58
9↑5الكاتبمدونة عبير محمد97
10↑5الكاتبمدونة عطا الله عبد160
11↑5الكاتبمدونة رهام معلا173
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1089
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب697
4الكاتبمدونة ياسر سلمي662
5الكاتبمدونة اشرف الكرم582
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري507
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني429
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين418
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب338872
2الكاتبمدونة نهلة حمودة196085
3الكاتبمدونة ياسر سلمي184913
4الكاتبمدونة زينب حمدي170713
5الكاتبمدونة اشرف الكرم133695
6الكاتبمدونة مني امين117530
7الكاتبمدونة سمير حماد 109741
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي99645
9الكاتبمدونة مني العقدة96376
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين95611

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
2الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
3الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
4الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
5الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18
6الكاتبمدونة عطا الله عبد2025-07-02
7الكاتبمدونة نجلاء البحيري2025-07-01
8الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
9الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
10الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27

المتواجدون حالياً

1995 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع