عندما يستبد رب الأسرة في إدارته لأحوال أسرته أو المدير في قراراته لإدارة مصلحته أو الحالكم في دائرة حكمه يقولون عنه أنه حكم قراقوش وكثير منا لا يدري ماذا تعني هذه المقولة التي دخلت في قاموس الأمثال الشعبية المتوارثة دون دراية بمصدرها أو سبب ومناسبة قولها ؛
ومقولة "حكم قراقوش" هي مثل عربي شائع يضرب للدلالة على الظلم، والتعسف والغرابة في الحكم والقرارات.
فالظلم والجبروت : يُستخدم التعبير للتدليل على جور الحكم وجبروت القاضي أو الحاكم ويحتج به الشخص الذي يشعر بأنه قد ظُلِم في أمر ما أو وقع عليه قرار جائر لا يمكن التراجع عنه.
والقرارات الغريبة والغباء: يشير أيضًا إلى الأحكام العجيبة الغير منطقية أو الساذجة التي تصدر عن صاحب سلطة وتصور الحاكم تارة بالظالم وتارة أخرى بالغبي. أما الاستبداد والتعنت فيقال عن كل شخص صاحب جاه وسلطة يمارس غروره وظلمه وتعنته على الآخرين وعلى من هم تحت سلطته.
كل هذا يعود بنا إلي أصل المقولة فمن هو قراقوش هذا الذي يضرب به المثل في الاستبداد والتحكم والظلم والغباء إنه شخصية تاريخية حقيقية هو بهاء الدين قراقوش الأسدي الذي كان أحد القادة المقربين ووزير الحرب للسلطان صلاح الدين الأيوبي ونائبه في حكم مصر في فترات مختلفة.
اشتهرت سمعة قراقوش وذاع صيته بعد وفاته بشكل سلبي بين العامة بسبب كتابات ساخرة نُسبت إليه وأشهرها كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش"، والذي صوّره كحاكم مستبد وغبي يصدر أحكامًا مضحكة وغريبة. وقد اختلطت هذه الحكايات بالنوادر والطرائف الشعبية التي كانت تنسب لشخصيات أخرى حتى أصبحت تطلق على أي حكم ظالم أو غريب.
ولذلك، على الرغم من أن بعض المؤرخين يرون أن قراقوش كان شخصية تتمتع بكفاءة عالية وأمينًا وأسهم في أعمال إنشائية ضخمة (مثل قلعة صلاح الدين وسور القاهرة)، إلا أن الذاكرة الشعبية احتفظت به كمثال للحاكم الظالم غريب الأطوار فصار اسمه مرادفًا للظلم والاستبداد والغباء في القضاء.
وتشير المصادر التراثية إلى أن قراقوش الذي كان أحد وزراء #صلاح الدين الأيوبي في مصر بل إنه ركن من أركان توطيد حكمه واسمه بهاء الدين قراقوش. كان هذا الشخص غلامًا مملوكيًا، يقال إنه من أصل تركي دون تحديد واضح لهويته وقد تدرج بجده واجتهاده إلى أن صار قائدًا عسكريًا في بلاد الشام ومن ثم في مصر التي وصلها مع بزوغ فجر الأيوبيين وحكم صلاح الدين. وقد اعتمد عليه صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اثنين آخرين هما الفقيه عيسى الهكاري والقاضي الفاضل وعمل ثلاثتهم على تثبيت دعائم الدولة وإنهاء الفوضى التي عمّت مصر بعد وفاة الخليفة العاضد الذى كان آخر الخلفاء الفاطميين حيث حاول بعض رجاله الدخول في صدام مع صلاح الدين بأمل أن تبقى مصر تحت راية الفاطميين.
وينسب إلى قراقوش أنه قام بدور تاريخي في إنهاء سطوة أسرة العاضد حيث سجنهم وعزل نساءهم عن رجالهم وفرّق عنهم مواليهم وسيطر على ثرورة القصر الفاطمي التي كانت كبيرة جدًا.
وتذهب بعض الروايات إلى أن قراقوش، ومعناها النسر الأسود بالتركية كان قد خدم صلاح الدين في البداية إلى أن وثق فيه الرجل ومرات يقال إنه خدم عم صلاح الدين، وفي كل الأحوال فهو قد استطاع أن يصل إلى مكانة مرموقة في عصره بإخلاصه في خدمته .
وينسب له أنه بنى السور المحيط بالقاهرة وقلعة الجبل وقناطر الجيزة وقد كان نائبًا لصلاح الدين في شئون الحكم بالديار المصرية وفي تدبير الأحوال ويقال إنه كان حسن المقاصد إلا أنه كان شديد الحكم ويأتي حكمه بطريقة غير تقليدية.
وقضى قراقوش قرابة ثلاثين سنة يخدم صلاح الدين وابنيه لترتبط صورته لدى العامة بالأحكام الغريبة والمدهشة التي تصوره تارة ذكيًا ومرة غبيًا وقد تم تناقل الكثير من تراثه في القضاء والحكم إلى اليوم لما فيه من نوادر وطرائف.
فهو لحدٍّ ما تم إعادة تصويره وإنتاجه كما حصل مع جحا وأشعب وغيرهما من الشخصيات التراثية التي بدأت بسيطة ثم تعقدت صورتها عبر المتناقل بواسطة الناس خلال الحقب والعصور.
ولم يعف من الحكم والدولة إلا مع عهد الملك العادل شقيق صلاح الدين، وحيث لزم بعدها بيته إلى أن توفي عام 1201م .
وقد حصل بهاء الدين قراقوش على لقب الأمير ونال ثقة الحكام في مصر والشام ومدّ جسره إلى الآثار الباقية حيث أنشأ القلعة والسور بالقاهرة رغم ذلك لم يسلم من الادعاء حوله.
فالمؤرخ المصري ابن مماتي الذي عاصر صلاح الدين الأيوبي كتب فيه كتابًا أسماه " الفاشوش في حكم قراقوش". ، وتشير كلمة "فاشوش" إلى الأحكام الفاشلة أو الوهمية وقد ورد في لسان العرب "فاشوش: ضعيف الرأي والعزم"، ويقال في الدارجة "فشوش" للشيء والكلام والفعل الفارغ الذي لا مضمون له.
وقد عمل ابن مماتي في مؤلفه هذا على نسج حكايات بسيطة ومضحكة منسوبة لقراقوش، ما سهل تداولها على الناس عبر الأجيال وبعض هذه القصص ليس واقعيًا بل كان من نسج خيال ابن مماتي المحض.
ويقال إن الصراع بين ابن مماتي وقراقوش وراء هذا الكتاب وحيث الأول كان يمثل سلطة القلم في حين أن الثاني كان يعكس تسلط السيف وقد تنافس الاثنان في عصر الأيوبيين على أن يكون لكل منهما نفوذه الأكبر. وقد فاز قراقوش على ابن مماتي ولكن فيما بعد كان المؤلف قد خلّد صورة بهاء الدين قراقوش بالطريقة التي أرادها، وذلك وفق النماذج التي رغب فيها بالضبط من تصويره على أنه أحمق وجائر.
من أحكام قراقوش :
بقدر ما تكشف أحكامه على الناس مقدار الحماقة إلا أنها تحوي حكمة نادرة وتدل على أن الأمور يمكن أن تُرى بأكثر من شكل، كما أنها تشير إلى ذكاء نادر في هذا الرجل فقدد حدث أن شكا رجل إلى قراقوش تاجرًا أكل عليه أمواله فاستدعى قراقوش التاجر وسأله عن السبب فقال التاجر: "ماذا أفعل له أيها الأمير؟ كلما وفرت له الأموال لأسدد له دينه بحثت عنه فلم أجده". وفكّر قراقوش كعادته ثم حكم بأن يسجن الرجل صاحب الدين حتى يعرف المدين مكانه حين يريد تسديد الدين له فهرب الرجل قائلا: "أجري على الله ، وقالوا لقراقوش مرة إن طائر "الباز" المفضل لديه قد هرب من القفص وطار فأمر قراقوش بغلق كل أبواب القاهرة حتى لا يستطيع الفرار.
ينسب إلي قراقوش أنه كان وراء إعدام العالم الشهير شهاب الدين السهروردي في عهد صلاح الدين صاحب العديد من المؤلفات المشهورة مثل "حكمة الإِشراق"، "هياكل النور"، "لغة النمل" وغيرها، وكان في السادسة والثلاثين من عمره عندما حكم عليه في عصر الأيوبيين.
وبين صورة الغباء والذكاء حيث يصفه البعض بالديكتاتور، ويصفه آخرون بالعادل غير المألوف في حكمه فإن صورة قراقوش إلى اليوم تباعدت بين الحقيقة والوهم وصار أسطورة لحد ذاتها يمكن أن تقرأ بأكثر من وجه.










































