يقولون دوما: إن هناك طقوسًا للكتابة تخص كل كاتب، وإذا لم تتوفر هذه الطقوس، لا يستطيع الكاتب أن يكتب حرفا واحدًا.
تناولت كثيرًا من هذه الطقوس في كتابي( دهاليز الكتابة) والحق أن هناك طقوسًا كانت غريبة ومدهشة ومحيرة ، كانت من طبيعة كبار الكتاب وأعلام الفكر وعظماء الأدب.
لكن الحقيقة التي عرفتها قبل معرفتي لهذه الطقوس، أن الفكرة إذا داهمت الكاتب، فإنها لا تعترف بأي شيء في الوجود سوى الورقة والقلم، إنها تكفر بكل شيء في طريقها، ولا يهمها ما تفقده النفس من عوامل الانتشاء ومحفزات الكتابة.
إنها تنطلق ولا ترى شيئًا غير هذا الانطلاق، تريد أن تخرج للوجود كبركان يريد أن ينفجر إلى سطح الأرض.
مهما كانت الظروف غير مهيأة ومهما كان الوقت غير ملائما، لا يهتم الكاتب بكل هذه الموانع لأنه لا يعرف إلا شيئا واحدا فقت وهو أن يكتب.
كان الأستاذ علي الطنطاوي حينما تواتيه الفكرة يكتب وهو في الشارع أو في المواصلات أو في السوق، ولا يجد شيئا يكتب فيه إلا ذلك الهامش على ورق الجرائد، يقف ويكتب ويستغرق في الكتابة بين المارة حتى يظنون أنه مجنون.
بعض الكتاب حينما يكتب، لابد أن يكون المكان نظيفا جميلا مرتبا مهيئًا حتى تأنس روحه بهذا الإلهام فتستدعي أفكارها، لكن بعضهم، وفي سبيل الفكرة وتسجيلها على الورق، لا يهمه الجمال أو القبح، إنه يكتب حتى ولو أقام في حظائر الماشية، أو كان قريبا من أكوام القمامة.
دوستويفسكي الجسور.. كان يكتب أمجاده في بهو قذر ملطخ بالحبر الأسود، فيكتب وهو واقف على رخامة المطبعة فصولا كاملة من روايته ويتسلمها منه صفاف الحروف، ولم يجد جزعا من هذا أو يعترض بأن المكان لا يناسب إلهامه.
بل كان يكتب على مائدة صغيرة إلى جوار فراش زوجته وهي تحتضر، ولم يقل: إن الوقت والظرف غير مناسبين.
بل كان يستدعي سكرتيرته في الغرف القذرة، وهو يكتب الجريمة والعقاب والمساكين والمقامر وغيرها من رواياته المدهشة التي أملاها عليها.
وعلى نفس الوتيرة كان الكاتب الفرنسي (أنوريه دي بلزاك) الذي ظل يكتب في غرفة تسبح في القذارة، ويمرح فيها الحشرات 60 صفحة كل يوم لمدة 3 سنوات متصلة أتم خلالها كما قيل: 31 كتابًا من كتب المغامرات التي نشرها بأسماء مستعارة ليكسب منها قوت يومه.
هذا ما تعلمته من هؤلاء جميعا حينما خدعتني الأوهام يوما أن أقلد الكتاب فيكون لي مكتبي الخاص، وأقلامي ورفوف مكتبتي التي تقبع خلفي، فأرتب المكان وأصف الأوراق وأستعدل مقعدي وأرص حولي الأسفار والكتب.
ذلك وهم كبير وقد تبين لي أن الفكرة إذا أتت لا يهمها شيء من هذه المظاهر الكاذبة، لأنك ستكتب مهما كان الظرف قاسيا، ستكتب حتى لو تعثرت قدماك في الوحل.
------------
رابط دهاليز الكتابة في أول تعليق