اكفر وافجر وافسق فكل شيء متاح مباح لك، وكن مطمئنا فلن تجد من يريبك أو يتهمك أو يتجنى عليك، فقط ما عليك إلا أن تكون رمزيا، وأنك لا تبغي غرضا إلا الرمزية، حتى لو زنيت بأمك وقتلت أباك فلا تخف ، فحينما يرجموك أو يسجنوك، فسوف يطلقون سراحك سريعا ويبرؤونك وربما يعتذرون لك بمجرد أن تخرج لهم بطاقة الرمزية.
------------------------------------
هناك من النقاد من يتعاملون مع الإبداع القصصي بحزم ودقة وتعقب وصرامة، وكأنه واقع حقيقي يجب أن يخضع لطبيعة الإنسان والحياة.
ولعل الحق يلازمهم في هذا المنحى في كثير من المواطن، ولكن الأديب والقاص يهب منتفضًا ليدافع عن نفسه وأدبه، بأن الخيال لا صله له بالواقع، ولا يمكن للواقع أن يحاسبه أو يحول بينه وبين جموحه في اليمين والشمال.
ويحتج بأن للأديب أن يستخدم في خياله ما يشاء من وسائل الرمزية التي تصب بثقلها على الواقع الحياتي، فإذا أردت أن تُحاسب أديبًا على رمزيته فهذا جهل وخطأ، وليس من حقك أن تعامل الأديب أو الشاعر كما يعامل النقاد كاتبا أو باحثا، في عمل كتبه يثبت فيه تجربة أو يلقي بحروفه على نظرية، أو يحلل حقبة تاريخية.
ولقد ذكرت ما فعل أمل دنقل في قصيدته التي عارض فيها منطوق القرآن الكريم فقال شاعر صديق: حنانيك أيها الكاتب فلعها الرمزية.!
وبادئ ذي بدء.. نحن نقرر أن الأدب ليس للمتعة فقط، وإنما الأدب من أعظم سبل الثقافة التي تعلم المعرفة وتثقف الشعوب وتهذب العقول وترتقي بجماهير القراء في كل الأمم، وقد يحلو للأديب أن يستخدم من الرمزية والخيال فيما يحلو له من مظاهر الحياة وشؤونها، لكن حينما يتصدر الأدب للحقائق ويحاول تمييعها وتكذيبها والافتراء عليها، فهنا تكون المصيبة، لأن الأدب هنا يتحول إلى كذاب أشر، ويجعل من الأدب كهذا العلم الذي يضر الشعوب، ويهلك الأمم، ويفتري على الحق، وينصر الباطل على الحق.
وهو تمامًا كأديب يكتب في الجنس، فنرى من يصفق له وينبهر بما كتب، وكلما أبدع هذا الأديب في وصف الدعارة وحميمية الرجل والمرأة، كلما وجدنا من ينبهر به ويرى فيه عبقرية لا يقوى عليها غيره.
إن الأدب الذي لا يُبني الفضيلة ويُرسي دعائم الأخلاق في المجتمعات، ويهذب نفوس الشعوب، إنما هو رذيلة يجب محاربتها والتصدي لها، وكذلك الأدب الذي يكذب الحقائق ويشوه الرموز والأبطال، يجب حربه ووأده، لأنه أدب مجمل بالكذب، غرس فيه أصحابه السم في الدسم، تحت مزاعم الرمزية وحججها الواهية.
وعندي أن الرد الأوحد على رواية أو قصة هذه شأنها، أن تمذق ويحكم على كاتبها بعقوبة القانون، لأنه أفسد تاريخ الحقيقة التي تعتز بها الأوطان، وتمنحها القدوة، وتقيم حاضر الأمة ومستقبلها.
قرأ العلامة البيومي يومًا قصة تحت عنوان (جزاء الاجتهاد) للكاتب الانجليزي (رتشارد جارنت) تحدث فيها عن أناس يكرهون العلم، وينفرون من الاختراع، معتقدين أن من يأتي بالجديد، إنما يظهر عجز آبائه وأجداده، لأنهم لم يوفقوا إلى مثل ما وفق، ولقد كان كلامه طبيعيا لا خطر فيه، ولكنه جعل من كل ذلك تمهيدًا للقيام برحلة إلى الإسكندرية نهض بها إنسان تطلع إلى المجد في زمن عمر بن الخطاب ويسمى (فورس) وحينما دخل إلى المدينة، وجد سحابة عظيمة من الدخان تعلو سمائها، فسأل عنها، فقاده الحرس إلى خليفة المسلمين وهو في الإسكندرية، وجرى بينهما حوار أعلمه فيه فورس أنه قادم من الصين وسرد عليه من صفات أهلها، وذكر له أنهم قد اخترعوا فن الطباعة لنشر العلم والمعرفة، وهو فن لم يوفق إليه أهل اليونان والهند، وأخذ عمر يستوضحه عن حقيقة ما يقول مستشهدا بالمثال.
فقدم إليه (فورس) ما يحمله من قوالب وحروف الطباعة، كاشفا له عن حقيقة هذا الاختراع الذي سينشر العلم ويخدم البشرية، وتخيل فورس أن الخليفة سيرحب به كل الترحيب ويزكي ما قاله، لكن القصة ذكرت أن عمر عبس في وجهه ونهره قائلا:
" يلوح لي أنك لا تعلم بالأمس أننا أمرنا بإحراق جميع الكتب التي ملأت مكتبة الإسكندرية، وقد بلغت آلاف المجلدات وشملت علوم الطب والهندسة والحكمة والفلسفة والمسائل الطبيعية، لأن ما تحويه لا يخرج عن أمرينن، إما أن يخالف القرآن فيكون كفرا، وإنما أن يوافقه فلا حاجة لنا به، ولعلك تعرف أن هذه السحابة العظيمة التي سألت عنها إنما هي الدخان الذي تسببت فيه حرق الكتب"
أظهر العلامة البيومي خبيئة القصة المدلسة وغرض كاتبها منها، حينما أراد أن يعطي مدلولا قويا على أن خليفة المسلمين حرب على العلم والمعرفة، وأنه أحرق مكتبة الإسكندرية، ليحول بين الناس وبين العلم والمعرفة والحقيقة، مفضلا أن يعيشوا في غياهب الجهالات.
وذكر البيومي أن هذا الكاتب لم يأت بجديد فهذه التهمة أوردها كثير من المستشرقين الذين وجدوا من رد فريتهم وأبطل تهمتهم ، ولكن الجدد الذي أتى به، أنه لم يذكر أكذوبته في بحث علمي مُغرض، وإنما ذكرة في قصة أدبية، تمكنه من حرية التصرف الكبير دون مؤاخذة، فليس له أن يتقيد بالنص الشائع أو الحقيقة من عدمها، بل له أن يزيد بما يسمح له خياله المتفنن في التصوير والإيحاء!
وإذا كان جمهور القراء الإنجليز لا يعرفون شيئا عن حقيقة تاريخ عمر، وشغف الإسلام بالمعرفة، فإنهم سيقابلون الأسطورة بالتصديق، وكثير من ذوي الهوى والغرض سيعملون على ترويجها وترجمتها لتؤدي دورها التبشيري في سهولة تامة، فالكاتب عندهم قصاص لا مبشر، وما شهد إلا بما علم.
إن عمر لم يذهب إلى الإسكندرية ولكن الخيال سمح لصاحبنا أن يشتط فيقيمه في الإسكندرية، ليقوم على إحراق المكتبة بنفسه، وذكر البيومي قوله: "ولا أدري لماذا لم يشتط به الخيال مرة ثالثة لينسب الحريق المزعوم إلى رسول الله ليكون أوقع وأروع!!"
ودعا البيومي ذوي الغيرة من المسلمين بملاحقة هذا النمط الأدبي وترجمته والرد عليه، وكتابة ما يدل على افترائه في هوامشه، حتى يكون القارئ على دراية بكل شيء، فلا تضره هذه الأكاذيب التي تدثرت بالأدب والفن القصصي والرمزية.
لقد شوه توفيق الحكيم عظيما من عظماء المسلمين في السلطان الحائر، وما كان له هذا، وما كان الأدب ليكون حجته لهذه الجريمة التاريخية التي تخفت بدثار الأدب، والتي قام يدافع عنها قوم لا انتماء لهم ولا اعتراف لهم بهوية، بل لهم قلوب لا ترجو للحق وقارا.