أعلن دوما أنه لا تعجبني نبرة التشنج والعصبية التي يبديها البعض لحزبه وانتمائه أو جماعته أو وظيفته، كنت أندهش وأنا أرى المحامي والضابط والمعلم كل يتعصب لمهنته وأهلها وكأنها مهنة القداسة وكل من ينتسب إليها مقدس معصوم، حتى جاء في الركاب أصحاب العمائم والمنتسبين للأزهر، إذا بهم يتعصبون للأزهر وشيوخه بشكل عجيب منفر، حتى ولو على حساب الحق والصواب، فإذا أخطأ الأزهري يطالبونك أن تُعرض عن مهاجمته، وإذا رأيت باطلا من أزهري يرفضون اتهامك له لأنه من أصحاب العمائم، وكأنه سليل الملائكة المطهرين والأنبياء المعصومين.
وهذا المسلك لا شك به شطط وجور وانحراف في الفهم فالأزهر وغيره ليس فوق النقد، وإذا أخطأ فرد في المؤسسة حتى ولو كان كبيرها، فلا يعني ذلك أن المؤسسة كلها تخطيء.. دعونا ننتقد من أخطأ في الوقت الذي نشيد فيه بمن أصاب، لكن أن تمنعونا وتريدون تكميم أفواهنا عن نقد المخطئين من أصحاب العمائم، فهذا جهل وصلف وغباء.
شيخ الأزهر نفسه ليس فوق النقد، ومن ظن أن انتقاد شيخ الأزهر يقود لهدم الأزهر وتشويه صورته فهذا صاحب نفس مريضة وعقل مبتور الوعي.
كيف لي أن أضع أكاليل الشرف على عمامة خائنة بحجة أن صاحبها من الأزهر، الخائن خائن سواء كان أزهريا أم غير أزهري، فالعمامة لا تحمي أحدا، إن ثبت انحرافه وتبين ضلاله.
حينما وصل محمد علي إلى حكم مصر، رأى أن يُضعف السلطة الشعبية التي أتت به، لأنها يمكن لها وبكل سهولة أن تطيح به كما جاءت به، وكونها تمثل سدا منيعا أمام الكثير من أطماعة وشهواته في السلب والسيطرة والنهب والطغيان.. فعمل هذا الطاغية جاهدا على وأد هذا النفوذ الشعبي من خلال الإطاحة بزعيمه عمر مكرم، والحكم عليه بالنفي إلى دمياط.
وكان رحيل السيد عمر الى دمياط مشهدا مؤثرا، شعر الناس مع هذا القرار بحجم النكبة وعظم الخسارة التي منيوا بها، فالرجل لم يكن في حياتهم شخصا عاديا، وإنما كان حاملا لهمومهم، كاشفا لكروبهم، يجاهد من أجلهم، ويدافع عنهم، ويرد مظالمهم، ولكنهم أمام عسف الحاكم الباغي لم يملكوا إلا أن يسكبوا الدمع في وداعه بعواطف مكلومة وقلوب ملتاعة يعصف بها الحزن العميق.
قال الجبرتي: " وشيعه الكثيرون من المتعممين وغيرهم، وهم يتباكون حوله، حزنا على فراقه، واغتم الناس لسفره وخروجه من مصر، لأنه كان ركنا وملجأ ومقصدا للناس لتعصبه لنصرة الحق، فسار الى بولاق، ونزل في المركب، فسافر من ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج إليهم الى دمياط".
هذا حال جمهور الناس وبعض المعممين الصادقين، لكن الموقف كان كفيلا أن نرصد فيه حالة أخرى وهي حالة العمائم الضالة الخائنة الفاسدة، التي جعلت من ذواتها خدما للحاكم ومطية تحد قديمة، تدافع عن زوره، وتبرر بغيه وظلمه، وتحرض على خصومه، وتشوه أنداده، وقد كان لهم موقفهم الحقير المتدني الذي لن ينساه التاريخ ولن يغيب من صفحاته حينما تعاملوا مع محنة هذا الزعيم الوطني بإفراط من الخسة والنذالة التي لا نظير لها.. لقد شاركوا الوالي في مؤامرة دنيئة ليوقعوا الشيخ ويصدق عليه قرار النفي، وبعد أن تم للباشا ما أراد.
المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي تحدث عن هذه الخيانة فيما نقل عن الجبرتي، وسجلها في كتابه عن محمد علي فقال:
ذهب الشيخ محمد المهدي عن إظهار يلتمس المكافأة على تدبير المؤامرة، فطلب وظائف السيد عمر فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعي ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وطلب كذلك، ما كان منكسرا له من راتبه من الغلال نقدا أو عينا مدة أربع سنوات، فأمر محمد علي بدفعها اليه نقدا من خزانة الحكومة وقدرها خمسة وعشرون كيسا "وذلك كما يقول الجبرتي – في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذكر".
ولم يكتف الشيوخ بالتواطؤ مع محمد علي باشا على الوقيعة بالسيد عمر، بل أخذوا بعد نفيه يعملون على النيل من سمعته، ولعلهم رأوا مظاهر حب الناس له حزنهم لفراقه، وعطفهم عليه، فأرادوا أن يحاربوه بسلاح الافتراء والتشهير، ليسوغوا فعلتهم، فكتبوا عرضا لإرساله الى الآستانة يبررون فيه عزل السيد عمر من نقابة الاشراف ونفيه، نسبوا إليه فيه، انه ادخل في دفتر الاشراف اسماء اشخاص ممن اسلموا من الاقباط واليهود، وانه قبض من محمد بك الالفي مبلغا من المال ليمكنه من حكم مصر في أيام قيام الجمهور على أحمد خورشيد باشا الوالي السابق، وأنه كان متواطئا مع الأمراء المماليك حين شرعوا في مهاجمة القاهرة يوم الاحتفال بوفاء النيل سنة 1805، وانه أراد اخيرًا أحداث فتنة بين الجمهور ليخلع الباشا ويولي خلافه.
وقد نمق الشيوخ هذا البيان، وطافوا به على زملائهم ليوقعوا عليه، فامتنع كثير منهم عن التوقيع، وبرءوا السيد عمر مما رمي به وقالوا: "هذا كلام لا أصل له"، وحصلت مشادة بين رؤساء الشيوخ المدبرين لهذا المنشور وبين الممتنعين عن التوقيع ، ثم غيروا صورة المنشور، وخففوا لهجته ليحملوا زملاءهم على توقيعه فامتنع كذلك بعضهم، وكان اشدهم اصرارا على استنكاره والامتناع عن توقيعه السيد احمد الطحطاوي مفتي الحنفية، وكان من العلماء الصالحين المتنزهين عن المطامع الدنيوية، فسخط الشيوخ عليه وتهددوه بعزله من منصبه، فلم يعبأ بهم، فعزلوه، وولوا بدله الشيخ حسين المنصوري، وخلع عليه محمد علي باشا خلعة الافتاء ، فلم يكترث السيد الطحطاوي لهذا الأمر، ولم يأبه له، واعاد الى الشيخ السادات الخلعة التي خلعها عليه من قبل حينما تولى الافتاء، فاستاء السادات من هذا العمل، وعده إهانة كبرى له، واستمر السيد الطحطاوي يقبح عمل الشيوخ. واعتزلهم في داره "وهم يبالغون في ذمه والحط منه لكونه لم يوافقهم على شهادة الزور، كما يقول الجبرتي، فكان عمل الطحطاوي حجة بالغة على نفاق الشيوخ وريائهم.
خلا الجو لحساد السيد عمر مكرم والمؤتمرين به، ولكنهم في الواقع قد جنوا على أنفسهم وعلى مكانتهم ونفوذهم، فان المؤامرة التي دبروها قد أسقطت منزلتهم في نظر الجمهور وفي نظر محمد علي باشا، فالجمهور رأى في عملهم معنى الغدر والخيانة، ومحمد علي رأى فيه الضعة وصغار النفس، فلم يبق لهم عنده ذلك الشأن الذي كان لهم من قبل، ولم يعد يعبأ برأيهم، وسقطت تلك الزعامة الشعبية التي كانت لها المكانة العظمى، والقول والفصل في تطور الحوادث مدى عشر سنوات متعاقبة، وزالت عنهم تلك الهيبة التي اكتسبوها بجهادهم وإخلاصهم وتضامنهم، وأضاعوا بتحاسدهم وتخاذلهم، ودالت دولتهم، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة، وحقت عليهم الآية الشريفة "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
وقد سجل عليهم الجبرتي رأيه فيهم بقوله: "ان الحامل لهم على ذلك كله الحظوظ النفسانية والحسد، مع أن السيد عمر كان ظلا ظليلا عليهم وعلى أهل البلد، يدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم، ولم تقم لهم بعد خروجه من مصر راية، ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض"، وقال في موضع آخر: "وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الامور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية".
ولعلنا من المقال يتضح لنا أن الازهر ليس طاهرًا كله، وليس شريفًا كله، ولكنه بكل صراحة ووضوح وواقعية ومصداقية، فيه الشريف والوضيع فيه النفيس والخسيس، فيه العالي والواطي، فيه الرفيع والحقير فيه الشجاع والمنبطح الجبان، فيه العزيز والذليل فيه السامي والرقيع.!