كان الطريق إلى غزة برزخاً من صمت معلَّب. لم يعد الهواءُ مجرد غبار؛ صار أثراً عتيقاً لرائحة الحياة التي اضمحلت. يوسف، يده مرساةٌ لكفِّ نور الصغيرة، كان يرى الأفق وقد استحال رتقًا محكمًا للعدم، رآه بحيرة رماد تنتظر من يغرق فيها. الهدنة، إذن، لم تكن سوى تلويحة وداع أخيرة لفترة الانتظار المتوترة.
في سرير الترحال، كان يوسف يعلِّق آماله على وهم الثبات اللغوي: أنَّ المنزل، اسمه، يفرض وجوده. كان يتشبث بذكرى سكينة فاطمة في الصُوَر، وقرقعة أوراق المتنبي. كان يردد: "لا يزيغ السراب حتى تواتيه الروح."
المشهد كان إلغاءً متعمداً لكل ما هو مألوف. وصلوا إلى ما كان يسمى "الرمال". لم يكن دماراً؛ كان عدماً مصمتاً. أفق من الخرسانة المشتتة، كأن الخواء نبت في الأرض. تنبؤاته سقطت في فخ الهاوية.
تساءلت نور: "أين مرقدنا يا أبي؟" وصوتها شذرة من الزجاج في صحن الفراغ.
انحنى يوسف. لم يكن يبحث؛ كان يجتر البقايا. أنامله تحولت إلى مجسات في تربة الموت المنظم. وفجأة، سطع بريق باهت تحت حجر أسود لَمَّاع. سحبه، فكان إطاراً معوجاً يضم بقايا لوحة ابتهاج عائلية. وإلى جواره، مِزَق من حقيبة نور المدرسية، وفي جوفها، شيء واحد لم يلحقه تَصَدُّع الأشياء:
المفتاح النحاسي لشقة الطابق الرابع.
كان المفتاح وثاقاً بارداً في كف يوسف. لقد صار أيقونة الانتقاء المتعجرف للزمن، وشاهد الإدانة الوحيد، ممثلاً لِمِلْكِيَّةِ الهاوية.
نظر يوسف إلى المفتاح، ثم إلى الجموع التي بدأت تتأصل في الرماد. كانت العودة هي تتمة الهجرة؛ ليست نهايتها.
ببطء، تراجعت يد يوسف التي تحمل المفتاح. لم يكن يطرحه؛ كان يهمله في الركام. التقط شيئاً آخر، حجراً أبيض هو صلابة الإرادة.
"انظري يا بنيتي،" قال يوسف، وصوته كخرخشة حصى تحت أقدام قاسية. "هذا هو إظهار العودة."
أمسك يوسف بالمفتاح مرة أخرى. كان يمسك بالشاهد المزيف على الماضي. رفعه إلى مستوى عينيه، وتَحَدَّقَ في نقوشه التي لم تَعُدْ ذات جدوى.
ثم، في لحظة التخلي المتعالي، أخذ يكسر المفتاح النحاسي بين أصابعه بعنف هدوئي مهول. صوت المفتاح وهو يتشظى كان بمثابة طَقْسِ حِدادٍ على وظيفة الأمان.
رمى الشظايا على الركام، ثم وضع الحجر الأبيض في يد نور، مشيراً إلى الجموع:
"هذا الحجر هو لغتنا الجديدة يا نور. المفتاح كان رمزاً لمضمون زال. هذا، هو فعل التأسيس. نحن لم نعد نحمل المفاتيح لفتح الأبواب، نحن نبعث المدن من الشظايا."
كانت العودة إقراراً: بأن العتبة النحاسية قد تداعت، وأن الأمل لن ينبت إلا من صلابة الحجر الذي وُضِعَ على صفحة الإلغاء؛ ليصبح المفتاح، بعد كسره، هو الدليل الأقوى على أن البناء يبدأ بإلغاء الأثر.





































