كانت الشمس تجلد الرمال كأنها سياط من نار، ترسم على الأفق سرابًا راقصًا يوهم بالنجاة. في هذا الجحيم المترامي، كان عيسى يجر خطاه المثقلة، كل ذرة رمل تلتصق بحذائه المنخور تحكي قصة عطش أبدي. حلقه الجاف يصرخ ألمًا، وصوت صرير الرمال كان النغمة الوحيدة في هذا الصمت المطبق. لقد تاه في متاهة ابتلعت كل أثر لخطاه.
منذ ثلاثة أيام، وعيسى يدور في حلقة مفرغة، تتداخل فيها التلال الرملية كأشباح عملاقة. قارورته الفارغة شاهد صامت على يأسه. تذكر همس جدته عن "أوهام الصحراء"؛ كيف ترسم للمحتضرين جنانًا خضراء لا وجود لها إلا في عقولهم المنهكة. لم يصدقها قط، حتى بدأ السراب يرسم أمامه لوحات وهمية تتحدى المنطق.
فجأة، لاحت في الأفق واحة خضراء . لم تكن مجرد صورة باهتة، بل ألوان خضراء حقيقية وماء يتلألأ تحت أشعة الشمس. انتفض قلبه بالأمل. دفعته غريزة البقاء نحو السراب الجميل. ركض بكل ما أوتي من قوة. قطع المسافات كأنه يطارد حلمًا يخشى تلاشيه. كلما اقترب، ازداد الوضوح. تناهى إليه خرير ماء عذب، كأن الصحراء تهمس بوعد الخلاص الأخير.
وصل أخيرًا. سقط على ركبتيه أمام الواحة التي بدت معجزة هبطت من السماء. ملأت رائحة الرطوبة والأرض الخصبة رئتيه المتعبتين. مد يديه المرتجفتين.اغترف من الماء، لكن أصابعه لم تلامس سوى رمال ساخنة وجافة. لم يكن هناك ماء ولا أشجار خضراء. فقط جثة هامدة لرجل يرتدي ثيابًا بالية، ترقد تحت جذع شجرة نخيل يابسة، قابضًا بيده على قارورة فارغة، وعلى وجهه ابتسامة مريرة تعكس دهشة أخيرة.
أدرك عيسى أن جسد الرجل الميت كان مرآته. لم تكن متاهة الصحراء مجرد تضاريس، بل قدرًا محتومًا يتوارثه التائهون عبر الأجيال. ابتسم ابتسامة شبيهة بتلك التي ارتسمت على وجه الجثة، قبل أن تنطبق عيناه إلى الأبد.