ارتجَّت الأرض تحت حذاء سالم المطاطي المهترئ. شمس طرابلس تلسع الإسفلت كجلد ثعبان محتضر، بينما الصرخات حوله ليست مجرد ضجيج؛ هي قذائف من النفي تتناثر في الهواء. عيناه، كهماج بحيرة في صيف قاس، التقتا بـاللافتة كصفيحة من نار وثلج، حفرت عليها الحمرة القانية الحكم الأخير: "لا للتوطين... ليبيا ليست سبيلًا،" في إشارة رجل أسود مكبل يرفع يديه كاعتراف مُطلق بالهزيمة.
غطى سالم قبضته على جيبه الأيمن. لا يملك مالًا يمسك به.فقط صورة طبعت على ورقة عملة قديمة في جيبه، بها وجه فاطمة وابنه عمر، دليلًا على أن له تاريخًا لم يبدأ عند هذا الرصيف. أربع سنوات من الجفاف في الجنوب قذفته شمالًا، لا مهاجرًا، إنما حطام سفينة تبحث عن مرفأ في وطنها. "إنهم آفة الوجود! جلبوا لسرقة ما تبقى من ضوء!" هدر المتحدث، فارتعش سالم، ورأى الجموع تتحرك كـمد أسود يبتلع الشواطئ. تلك الكلمات، التي تجرد الغريب من إنسانيته، تعريه هو أيضًا، ليغدو "المهاجر غير النظامي" في كل مكان: في نظر صاحب الورشة، وفي عيون الحارس.
تسلل من حافة المظاهرة إلى الزقاق الخلفي، حيث تترنح الظلال وتفوح رائحة القمامة. أخرج من حقيبة مهترئة لافتة أخرى، عثر عليها تحت ركام حريق قديم، خلفيتها بياض مُدلهم، كأرض لم يخطو عليها بشر بعد. بأصابع خشنة كجذور شجر صحراوي، وضع على الأرض ثماني حبات قمح صغيرة. ليست للزرع الآن. إنما هي أوزان على طرف اللافتة لمنع الريح من خطفها؛ هذا كل ما تبقى له من أرضه الأصلية، رموز لبركة ضائعة. ثم سحب قلمه الحبر الباهت، وكتب على البياض بخط يميل ويضطرب كشجرة تحت عاصفة: "أنا لست طامعًا في حصتكم. أنا أبحث عن خيمة لي ولولدي في هذه الأرض. أنا ابنها الذي لفظته الصحراء."
عاد إلى التجمع وجلس في الخفاء، متكئًا على جدار متصدع، رافعًا لافتته البيضاء الجديدة. سرعان ما شعر المتظاهرون بوجود جسم غريب في الحشد. ثلاثة شبان، بملامح حادة كشفرات سكاكين، اندفعوا نحوه. "ماذا تفعل أيها الغريب؟ هل أنت عميل لهم؟" سأل أحدهم بصوت كحجر يتكسر. لم يجب سالم. اكتفى بالنظر إلى الأحرف التي خطها على البياض. انقضوا عليه، مزقوا اللافتة تمزيقًا، طحنوا حبات القمح بأقدامهم القوية، كأنها جراثيم يجب إبادتها. وهطلت عليه اللكمات.
لم يكن الحشد يدرك أن سالم ليس مهاجرًا أجنبيًا عابرًا للقارات؛ إنه ليبي من أهالي فزان، نزح إلى الشمال بحثًا عن حياة بعد أن تحولت قريته إلى مقبرة للآمال. لكن جوعه ولباسه الرث وقربه الجغرافي من الحدود الجنوبية جعله نسخة مطابقة لـصورة المنكر والعدو التي رسمت على اللافتة الحمراء. تكسرت أنفاسه الأخيرة وهو يرى شعارهم القاسي: "ليبيا ليست سبيلًا." أدرك في تلك اللحظة أن الرفض لم يكن للغريب فقط. لم يمت سالم من الضرب؛ قتله يأس أن يكون غريبًا في رحم أمه. أصبحت اللافتة البيضاء والممزقة فوق جسده، بكل بياضها، شهادة على أن الوطن حين يغضب، لا يميز بين ابنه وطريده.
كاتب وقاص ليبي