كانت ليلة شتوية باردة. تمددت فيها على مهادي أتأمل عقارب الوقت الحائطي وهي تتحرك مقتربة من منتصف الليل. قطرات المطر تتساقط، محدثة صوتاً يُزجي في النفس البهجة، والسرور. أوراقي متناثرة هنا وهناك. البرد يملأ المكان. فنجان قهوتي، ما يزال يحتفظ ببقايا البن. في تلك اللحظة سمعت صوتاً أشبه بصراخ امرأة تستغيث. اعتقدت للوهلة الأولى بأنه آت من داخل بيتنا. لكنني حين فتحت باب غرفتي لاستجلاء الأمر تبين لي أن كل شيء يغط في سكون؛ إلا أنني سرعان ما أدركت بأن تخميني كان صائباً إذ تردد صدى الصوت من جديد. اتجهت إلى النافذة. فتحتها. فإذا بامرأة تصرخ: لقد حرمني ابني. خطف مني ابني. ظلام دامس، وطقس بارد جداً، وهدوء يغرق القرية إلا من صرخات تلك المرأة التي تخترق سكون الليل. انتابني شعور غريب. تراءى لي رجل يمضي ممسكاً بيد طفل. يهرول مسرعاً والمرأة تصرخ تتبعه ملوحة بكلتي يديها. تنتف شعرها. تولول، تحولق، تهلل، مستجدية النجدة. فجأة! تلحق به. تمسكه من زنده: افعل بي ما شئت. فقط دع لي ابني. دفعها. سقطت على الرصيف. جثت على قدميه تقبلهما. تطلب إليه أن يرأف لحالها. كان الطفل يصرخ متعلقاً بطرف رداء أمه، والرجل يجذبه إليه. بقيت مذهولاً! لم أستطع تحريك ساكن وأنا أراقب ذلك المشهد. سمعت صوتاً ينادي: يا بني ماذا يحدث بالخارج؟ انتبهت ونظرت إلى الخلف لأجد خالتي، التي أيقظها صراخ المرأة المستغيثة.
قلت لها: لا شيء يا خالتي! عودي إلى غرفتك ونامي. متذمراً وقفت في الشارع هنيهة ثم اتجهت إلى المرأة التي كانت تنتحب باكية والرجل يبتعد عنها في حلكة تلك الليلة الماطرة؛ في زمهرير الشتاء. دنوت منها وسألتها: من يكون ذاك الرجل؟ رفعت رأسها حتى أبصرت وجهي. كانت الدموع تغسل مقلتيها. نطقت بنبرة حزينة: أتوسل إليك الحق به. وأعد إلي ولدي.
* طيب ما قصتك يا امرأة؟
* إنه والد طفلي. تركه لي بعد أن طلقني منذ سبعة أعوام مضت. لم يسأل عنه كل تلك الفترة. وجاء الآن ليراه وخوفاً من أن يَحْدُثَ ما رأيت منعته فما كان منه إلا أن أخذه بالقوة. لفني إحساس غريب وأنا أستمع إليها تسرد تفاصيل محنتها. رجوتها أن تعود إلى بيتها كيما لا تصاب بنزلة برد وأن تتوشح برداء الصبر وأن هكذا أمور تحتاج إلى حكمة ودماثة عقل! عدت إلى البيت. استلقيت على فراشي أنفث دخان سيجارتي. اتكأت على جنبي الأيمن. وضعت مخدتي على صدغي الأيسر وأغمضت عيني.