مذ كانت طفلة صغيرة، تلهو بالثرى، في فناء بيتهم الخشبي، تغرس مرآتها في التراب، لتتمكن من رؤية حبات العقيق المتدلية من جدائل شعرها الأسود الكثيف، منذئذ و"هند" تبحث بين جوانح قلبها الصغير، عن ثقب لتنفذ منه مُمنّية النفس بفارس أحلامها، ابن عمها "أحمد". تواعدا كثيراً تحت ظل شجرة الطلح التي تفصل بين بيتيهما. كبرا معاً. وتشـاء الأقدار أن يقترنا، إذ ما لبث والد "أحمد" أن طلب يد "هند" لابنه. وانتقلا للعيش في المدينة خالعين ثوب التخلف. التحق "أحمد" بإحدى ورش النجارة، وتتلمذ جيداً على يد النجار العجوز "خلف الله" الذي عهد إليه مسئولية الورشة وكان ماهراً، ومخلصاً في عمله. تحسنت ظروفه المادية. عاد إلى القرية في محاولة منه لإقناع والديه للانتقال، والعيش معه في المدينة إلا أنهما آثرا البقاء في القرية. في تلك الليلة عندما عاد "أحمد" إلى البيت وجلس بجوار "هند" على حافة السرير، كانت في أتم زينتها، تحتسي القهوة. قال: لم تحتسين القهوة في هذه الساعة؟ لم تنبس ببنت شفة. أدارت له ظهرها، وأصابعها تداعب خصلات شعرها. أيقن أنها في مزاج سيئ. سألها: ما بكِ؟ لم ترد. وقفت. وضعت فنجان قهوتها على الأريكة، ثم عادت ودست جسدها النحيل تحت الغطاء. مزّ شفتيه. أشعل سيجارته. راح يتأمل دخانها. أشاحت عن وجهها الغطاء وصرخت فيه: لقد كبت أنفاسي بدخان سيجارتك الملعونة.. تأسف.. أطفأ السيجارة.. عادت وغطت وجهها. قال مازحاً: قولي لي ما خطبك، وإلا أشعلت سيجارة أخرى.. نهرته وهي تقول: أوووف!! كم أنت ممل؟ تسلل بهدوء. وبخطوات مرتبكة، انسحب خارجاً إلى الصالة، ورمى بجسده على الكنبة.. قذف بيده على جبهته، ثم عاد وصالب كلتا يديه على صدره.. تساءل في سره: ما الذي أصابها.. ماذا عن الأشياء التي تحدثنا عنها وتعاهدنا على إرسائها؟ تذكر أنها عاهدته ذات ليلة، وهي تشبع نهمه وتطفئ ظمأه بغنج أنوثتها الفائرة، عاهدته بأن تجعل أيامه، ربيعاً دائماً.. مد يده إلى الكأس المملوء بالماء، وأفرغ محتواه في جوفه.. صرخ وهو يردد: لم تصرين على هدم ما بنيناه؟ ما الذي.....؟ توسد يده اليمنى وغط في سبات عميق.. في الصباح بعد أن توسطت الشمس كبد السماء، استيقظ مذعوراً على أذان الظهر.. أعد كوب شاي.. ارتشف منه رشفة سال بعضها على شفته السفلى.. خرج مسرعاً إلى فناء البيت.. رأى الناس يهرعون.. طأطأ رأسه.. مرر أصابع يده على جبهته.. خرج مسرعاً.. استطاع أن يلحق بشيخ مسن يتوكأ على عكازه.. يا شيخ.. يا شيخ.. إلى أين يذهب هؤلاء..؟ رد الشيخ بنبرة مبحوحة: لقد توفي عمك، والد زوجتك.. وجد ميتاً بعد أن صدمته سيارة في طريقه إلى بيتك.. لا إله إلا الله.. كل من عليها فانٍ.. هرول شاقاً طريقه، وسط الزحام، ينتحب كالطفل، كان جسد الحاج هارون ممدداً على الطريق، مغطى بثوب أبيض، مطوق بشريط أحمر اللون، محاط برجال الإسعاف الذين نقلوه إلى المستشفى. عاد "أحمد" إلى البيت.. كانت "هند" ما تزال في حجرتها مستلقية.. غارقة في أحلامها.. دخل إليها. أيقظها. هيا سوف نذهب إلى المستشفى.. آآآآآه.. ما بكِ؟؟ دعني أكمل نومي.. قال: يا مجنونة لقد توفي والدك.. صرخت، وانهارت فاقدة الوعي.. أسعفها إلى المستشفى.. بعد أن استردت وعيها، طلبت إليه أن يصطحبها إلى ثلاجة الأموات، لتلقي النظرة الأخيرة على والدها.. ذهبا وكانت دهشتهما هائلة، حين قال لهما الطبيب: إن الحاج هارون لم يمت، وإنما أغمي عليه نتيجة ارتطام رأسه بجسم صلب على قارعة الطريق، لما صدمته السيارة. بعد أيام غادر الحاج هارون المستشفى إلى بيت ابن أخيه وصهره "أحمد" حيث اعتنت به ابنته هند، على أحسن ما يرام.. حتى أن زوجها لاحظ التغير المفاجئ على سلوكها إذ أصبحت لطيفة، تغدق عليه عاطفتها الجياشة. كان يلتفت يمنة، ويسرة، يدير وجهه في كل الاتجاهات كمن يبحث عن شيء ما؛ حتى ظن الناس أنه مخبول العقل.. وذات يوم أصر أحد الرجال على اكتشاف سر ما وراء سلوك هذا الرجل الغريب؟ تقدم منه.. سأله: أتعاني من ضائقة ما؟ لم يرد وبعد إلحاح منه أجابه: أريد التخلص من ظلي..!