الاصابع الصخرية للجبل تضغط على قرية نحتت من العطش. في قلبها، فوهة مشرعة، حفرها الدهر ببطء. حول حافتها المسننة، يتأرجح دلو خشبي قديم، مربوط الى حبل اسود سميك، يتدلى كوتر متعب من قوس. الشريان يبدو خاوياً، لكنه الوعد الوحيد في كل بزوغ فجر.
الرمل لم يزل بارداً على قدمي ام هاشم. خطواتها، منذ فجر الطفولة حتى وهن السنين، لم تخن هذا المكان. يداها المكسوتان بالشقوق قبضتا على الحبل. لم تعد عيناها تريان وضوح الفجر، لكن اصابعها تعرف ملمس النجاة. انزلقت لبنة الحبل، فانسحبت معها روح القرية الى الاعماق المظلمة. ارتجاف خفيف في الحبل.
انتصبت قامتها المتقوسة، ترمي بوزنها كله خلف كل سحبة. عروق زرقاء انتفخت تحت جلد ساعديها. الانفاس تتصاعد حشرجة، ووشوشة شعرها الابيض تتماوج مع جهدها. الحبل ثقيل، أثقل من القرية نفسها.
هذا الصباح، لم تأتِ الرجفة المخادعة، اللذة الصغيرة التي تقول: "ها أنا ذا، امتلأت بالبلل المنقذ". شدت. انتظرت. لا شيء. جذبته مجدداً. لم يكن ثقيلاً بوزن الماء. كان ثقيلاً بصمت متعجرف، كانه عظمة متجذرة في القاع.
استمرت السحبة، حتى لامس الدلو نور الصباح المتعب. توقفت اليدان، تجمدتا في الهواء. لم يكن الدلو يحمل بريق الماء ولا حتى الطين. كان في قعره: حفنة من رماد جاف. وبين الرماد، قطعة صغيرة؛ عظمة بيضاء، بالية، مصقولة حتى الشفافية.
الكهل في عيني ام هاشم تجمد. لم يعد هناك مكان للدموع ولا هواء للصرخة. هذه هي الحقيقة. هذا هو كل ما استخرج. ظلت منازل القرية، كأكف مفتوحة نحو السماء القاحلة، صامتة.
بقي الدلو. في كل فجر، يقف عند الحافة. كل ما دلاه اليأس من خيط، لم يرفع قطرة ماء. كل ما جرفه الفناء من قاع الوجود، هو هذه العظمة البيضاء. اثر لحبل لم يشد سوى العدم.





































