في غزة، لم يعد الهواء إلا رماد قصف يختلط بعبق دماء الشهداء. كان يوسف، الصحفي، يتنفس هذا الخليط الثقيل، ولا يملك ملاذًا سوى غرفة ضيقة ترتجف جدرانها مع كل انفجار بعيد. اتخذ كاميرته درعًا، يوجه عدستها إلى فتات الحياة وهشاشة الوجود، وكأنها السبيل الوحيد لتسجيل شهادات على بشاعة لم يسبق لها مثيل. كان يحدّق في صوره، ورائحة البارود تتسلل إلى أنفه وتملأ صدره. يضغط على شفتيه حتى ابيضتا، وكل نقرة على لوحة المفاتيح تجعل كتفيه يرتعشان، وكأن قلبه لا يزال ينبض في أصابعه.
خرج في فجر ثقيل، يحمل ثقل الموت في خطواته. سار بين الأنقاض، وعدسة كاميرته تتجول بين الركام، تبحث عن أي دليل، أي أثر لحقيقة مطموسة. وبينما كان يوثق بقايا مدرسة، تجمدت عيناه فجأة على مشهد لم يتوقعه. لم يكن هناك سوى صمت يقطعه صوت صرير الدبابة، ورأى جنديًا إسرائيليًا شابًا يقف وحيدًا، وعيناه غارقتان في بحر من الدموع. في تلك اللحظة، لم تعد يدا يوسف ترتجف، بل اهتزت الكاميرا في قبضة يده بفعل الصدمة. التقط صورة لذلك الوجه، صورة لا تشبه أي صورة أخرى في أرشيفه إطلاقًا.
جلس يوسف يكتب. لم يعد قلبه يهتز، بل بدأت أصابعه تتراقص على لوحة المفاتيح بحمى، وكأنها جداول رقراقة تتدفق. كان يكتب عن ذلك الجندي الشاب الذي أُجبر على أن يكون جزءًا من محرقة، جنديًا يحلم بالعودة إلى بيته وعائلته.
وبينما كانت الكلمات الأخيرة تتدفق على الشاشة، اقتحمت سكون الليل طرقات عنيفة على بابه. فتح الباب، ووقف أمامه مجموعة من الجنود الإسرائيليين. لم يجد يوسف حتى الوقت ليقول كلمة واحدة. ففي لمحة بصر، انطلق الرصاص واخترق صدره.
سقط أرضًا، وكاميرته المهشمة ملقاة بجانبه، وشاشتها ما زالت تعرض صورة الجندي الشاب الباكي، كأنها الشهادة الأخيرة، والصامتة.