المدينةُ تغرقُ في عتمةٍ تتدفقُ من شقوق الأبنية كزيتٍ ثقيلٍ لزجٍ يخنُق الرؤية. رفعَ مصطفى يدَهُ؛ فأشارتْ إحداهما إلى لافتةٍ صدئةٍ تحملُ اسمَ شارعٍ، حروفهُ الممحوّةُ توحي بسكونٍ مقيمٍ. قبضت اليدُ الأخرى على طَرَفِ قماشٍ أسودَ مُتربٍ لم ينسدلْ قطُّ، وظلَّ يتأرجحُ في فراغٍ.
عيناهُ، كزجاجتين مُنهكتين، تقتفيان سِربًا من الأسلاكِ الشائكةِ يُحلّقُ فوقَ صرحٍ إسمنتيٍّ ضخمٍ في الأفق، حيثُ تتكسّرُ خيوطُ الأمل. كلُّ خطوةٍ يخطوها على الإسفلتِ تطحنُ تحتَ حذائهِ رائحةَ الحنينِ المطمورةِ، التي ترتفعُ كغبارٍ خانقٍ يُجففُ الحلق.
وصلَ إلى حافةِ الرصيفِ، حيثُ تتكسرُ شظايا ضوءِ القمرِ إلى ومضاتٍ باهتةٍ. هناك، جثمَ أمامهُ صندوقٌ خشبيٌّ عتيقٌ، ثقيلٌ كالأسرار، مُقيَّدٌ بقفلٍ نحاسيٍّ. انقبضَ صدرهُ، كأنّ خيطًا باردًا شدَّ عضلاتِ القلبِ.
لم يجدْ لهُ ملجأً أخيرًا سوى في التجويفِ الغائرِ الذي خلَّفتهُ سقطتُه الأولى على حجرِ العتبةِ البارد، فاستندَ إليهِ وأغمضَ عينيهِ.
فجأةً، تآكلتْ تلكَ العتبةُ بخفوتٍ، كاشفةً عنْ قبوٍ صغيرٍ يحملُ رطوبةً مجهولةً. مالَ مصطفى برأسهِ ليُلقي نظرةً بفضولٍ مُتوجّسٍ.
لم يكن القبو فارغًا؛ كان ثمة تابوتٌ صغيرٌ في وسطه. على خشبهِ بانت كلماتٌ تقول: "للاحياء مكانٌ خاصٌّ، أما هذا المكان فللزمن المحنَّط."





































