في خضمّ قيظٍ كان يلهبُ الأفق ويُذيبُ السراب، انتصبَ الكِيانُ الأسمرُ كأضخمِ بُعوضةٍ مُحطّمةٍ في سهلٍ مُحتَرِق. كانت القُبّةُ مُستَلقيةً بثِقَلِها، قَفصًا ضلعيًا من التّبنِ والوَحْل، جُثّةً لم تَكتملْ بعدُ من ترابِ الأرضِ وأنفاسِ البَشَر.
ثلاثُ ظِلالٍ، ارتدتْ لُبْسَ الشمسِ المُغبَّر، تتناوبُ عليها حِكمةُ البناءِ وبراءةُ العناء. واحدٌ يصعدُ السُلّمَ الخشبيَّ المائل، مِعمارٌ يرقُصُ على عتبةِ السماء، يَدسُّ الوحلَ بِنَهَمٍ على هامتها المُتَصدِّعة. وآخرُ تحتَ ظِلِّها المُرتَجِف، يسوقُ عربةَ اليدِ كَنَعشٍ صغيرٍ محمّلٍ بالطّين، يخطو على وِحدةِ الأرضِ ببطءِ المُكتَشِف. وثالثٌ على حافةِ اليمين، يمزجُ المادّةَ في برميلٍ دائخ، يُعجِّلُ بميلادِها المؤجّل.
الزمنُ يتجمّدُ في لزوجةِ الطّين، والأيادي تُشَكِّلُ ما ظنّتهُ سقفًا يحتمي من الشَّمس، أو جِدارًا يحجبُ العَراء، أو خِزانًا يحفظُ الزادَ لغَد. كانوا يصُبّونَ حياتهم خِلطةً سِرّيةً لِهذا الكائنِ الطينيّ الضَّخم.
بينما كان الرَّجُلُ الأوسطُ يُسطّحُ وجهَ القُبّةِ الأخير، ويُرتِّلُ في سِرّهِ نشيدَ الاكتمال؛ تَمزَّقَ غِشاءُ الطّينِ من القمّةِ فجأةً، لا بفِعلِ يدٍ أو معولٍ، إنما بصوتِ صراخٍ مكتومٍ، مُتَوَحِّدًا مع صوتِ تشقُّقِ التّبنِ والجَفاف.
انتفضَ البَنّاءون الثَّلاثةُ، وعَودةُ نظرِهِم المُرتَبِكَةِ إلى مصدرِ الصوتِ، التقطتْ ما لم تكنْ تتوقّعُهُ الأعينُ أو تخطُرُ على بال: فقد كانت القُبّةُ الضَّخمةُ، بكلِّ ما فيها من تبنٍ وطين، ليْسَتْ سِوى "خَلايا نَحلٍ ضَخمةٍ" تَبني بيْتًا لِملكتِها التي عُزِلتْ قَسرًا، وقد فُرِضتْ عليها عِمارةُ البشرِ سِجنًا، والمَادّةُ التي صَبّوها على الهيكلِ كانت "عَسَلًا" لا طِينَ بناء، تسربَ مع الصَّرخةِ، لِيَغرقوا هم وعَرباتُهُم وأدواتُهُم في بَحيرةِ الحلاوةِ اللَّزِجَةِ التي صنعوها بأيديهم للمَلِكةِ الوَحيدةِ!





































