الإهداء: إلى روح محمد الدرة.
---
في زحمة يوم غزاوي آخر، كانت الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة خلف ركام البنايات. تشبثت يد جمال بلفحة دفء وحيدة، يد محمد الصغيرة. "لا تخف يا أبي، أنا معك"، همس محمد. لم يخفف صوته الرقيق قصف الرصاص الذي راح يعزف سيمفونية الموت حولهما، يتهادى على الإسفلت الساخن كحبات مطر شرسة.
ارتمى جمال ومحمد خلف برميل إسمنتي، ملاذهما الهش في فوضى الدمار. أحكم جمال قبضته على ابنه، ضمه إلى صدره بكل ما أوتي من قوة، كأنما يحاول أن يدرأ عنه رصاص الدنيا كلها. "أنا درعك يا ولدي"، تمتم، بينما عيناه تتوسل الصمت.
لكن الصمت لم يستجب. اخترق الرصاص جسد محمد الصغير؛ مرة، مرتين، ثلاثًا. ارتخت يده، وتجمدت تلك النظرة الشجاعة. تلاشى دفء اليد، وتحول إلى برودة قاسية، كبرودة الحجر.
مرت السنون ثقيلة، جمدت جمال في لحظة أبدية. لم يعد صوت ضحك في الحي يثير فيه شيئًا، ولا نمو زيتونة صغيرة يلفت انتباهه. كانت عيناه الغائرتان تحدقان في الفراغ، كمن يرى العالم من خلال ثقب رصاصة في برميل محروق.
وذات ليلة، بينما كان يتمتم بآيات من الذكر، شعر بحرارة غريبة تندس في كفه. رفع يده، فوجدها ممتلئة رمادًا ناعمًا، أسود، كليل غزة الذي ابتلع ابنه. تنهد جمال بعمق، تنهيدة طويلة، خرجت كأنها صدى بعيد لقذيفة انفجرت للتو؛ ثم انقطعت فجأة.
في صباح اليوم التالي، وجدوه ميتًا. كانت قبضته مطبقة بإحكام على شيء ما. حين فتحوها بصعوبة، انكشف ما كان يمسك به: شظية صغيرة من برميل إسمنتي محروق، غاص فيها رأس رصاصة مشوهة.