في عالم سريع التحول، تبدو اللغة العربية وكأنها تقف على مفترق طرق. فبين فصحى تراثية تشكو العزلة، وعاميات محلية تكتسح الشاشات والشوارع، يشتد الجدل: هل نحن أمام صراع لغوي؟ أم أمام فرصة لفهم أوسع لتعدد هويتنا الثقافية؟
الفصحى ليست مجرد أداة تواصل، بل هي الوعاء الحضاري للعرب، لغة القرآن، والفكر، والشعر، والمخيلة. فيها بُنيت العلوم، وارتفعت الأمم. لكنها اليوم تُعاني من عزلة متزايدة عن حياة الناس اليومية، خاصة مع تراجع دورها في الإعلام والتعليم.
العاميات ليست طارئة، بل هي انعكاس طبيعي لتفاعل اللغة مع الحياة. هي أقرب إلى الناس، وأسهل على اللسان، وأكثر مرونة. لكنها حين تصبح الوحيدة في الحضور الإعلامي والثقافي، تضع الفصحى في موقع التهديد.
تلعب وسائل الإعلام دورًا رئيسًا في صياغة الذائقة اللغوية. ومع سيطرة البرامج العامية على الشاشة، تراجعت الفصحى إلى لغة النشرات الرسمية والحوارات الجافة. وقد ساهم ذلك في ترسيخ صورة نمطية بأن الفصحى "لغة صعبة أو جامدة"، بينما هي في الحقيقة قادرة على التعبير عن كل مستويات العاطفة والفكر.
أما بالنسبة لتدريسِ اللغة العربية في كثير من المدارس بوصفها مادة جامدة، مليئة بالحفظ والامتحانات، بلا إبداع أو متعة. يغيب عنها السرد، والمسرح، واللعب، والفنون، فتنفصل عن وجدان التلميذ. الفصحى لا تُدرس، بل تُعاش وتتذوق، وهذا ما نفتقده في كثير من المناهج.
شهدت بعض التجارب الناجحة دمج الفصحى في الفن، من رسوم متحركة إلى أعمال مسرحية وتاريخية. لكنّها ما زالت قليلة. أين الأغاني بالفصحى؟ أين القصائد التي تُقرأ على مسارح عامّة؟ لا بد من تحريك الفصحى من الكتب إلى المنصات الحية.
في عصر المحتوى السريع، تعاني الفصحى من الإقصاء أمام الرسائل المختصرة والرموز والانجليزية الهجينة. ومع ذلك، تبرز فرص جديدة: تطبيقات تعليمية بالفصحى، بودكاست أدبي، قنوات يوتيوب ثقافية، ومبادرات عربية لإعادة إحياء لغة الضاد في البيئة الرقمية.
كما تساهم بعض المنصات، في أحياء اللغة،من فعاليات و مسابقات الشعر ،يُكتب الشعر اليوم بكل أشكاله: عمودي، تفعيلة، نثر، عامي. لكن التحدي ليس في الشكل، بل في العمق. اللغة التي تمس القلب هي الباقية، سواء كانت فصحى أو عامية. المطلوب ليس قطيعة، بل حوار بين الجذور واللهجات.
العامية ليست عدوًا... بل جسر.
الفصحى ليست منفى... بل بيت.
التوازن يكمن في دمج الاثنين بحكمة: تعليم جذاب، إعلام مسؤول، وإبداع لا يتعالى على الناس، ولا يفرّط بالهوية.
اللغة لا تموت دفعة واحدة، بل ببطء، حين يهجرها أهلها. والفصحى لا تحتاج إلى معركة، بل إلى محبة، وجرأة، وخيال. أما العامية، فهي ليست الخطر، بل التراخي في ربط الأجيال بجذورها هو الخطر الحقيقي.
فهل نملك الشجاعة لبناء مستقبل لغوي يُنصف الفصحى، ويحتوي العامية، ويُعبّر عن روحنا بصدقٍ وجمال.








































