يا جميلة،
كل خطوة منك هي حياة، وكل غيابٍ منك هو موت صغير يتسلّل إلى روحي دون رحمة. أشتاق إليك شوقًا لا يصفه لسان، وأحملك في صدري كما يحمل العاشق حُلْمه الأخير. افتقدتك في كل زاوية من هذا المنزل؛ حتى الجدران غدت باردة بلا ملامح، والمقاعد خالية كأنها تفتقد دفء جلستك، والأبواب موصدة على صمتٍ ثقيل لا يزول.
في غيابك، تبدّلت الأشياء كلها؛ تغيرت الوجوه التي كنت أعرفها، وتغيّرت الألوان التي كانت تبعث في نفسي الطمأنينة. حتى القمر، ذلك الرفيق الذي اعتدت النظر إليه كل مساء، اختفى من سمائي. أشعر أنّني لم أفقدك وحدي، بل فقدتُ معك ذاتي، وصار عالمي غريبًا عني.
حدّثت الأرض عنك وعن غيابك، ولم أجد لها جوابًا. وحدها الرياح حملت همسي، ووحدها النجوم أنصتت لشكواي. أخشى أن يطول غيابك، وأكثر ما يربكني أنّني ما زلت أسمع صوتك في داخلي، أسمع همستك ونداءك للحب، كأنكِ لم ترحلي عني لحظة.
أتدرين يا حبيبتي؟ نقطة ماء من فيك كفيلة بأن تشفي أوجاعي، وجرعة حنان من يديك دواء لا يعرفه الطب. أنتِ علاجي من قسوة الدنيا، وأنتِ سرّ توازني وسط ضجيج العالم. لم أعد أفهم حياتي من دونك، وصرت أخشى أن أذوب في متاهات التيه والضياع. يا رب، لا تحرمني من نور وجهها الطاهر، ولا تجعل الغياب قدرنا الطويل.
قررت أن ألقاك غدًا، أن أعانقك مع أول رحلة تقلع من المطار، فالساعة لم تعد بيننا، وحده القدر يفصلنا الآن. رتّبت أوراقي، أعددت نفسي، وهيأت قلبي للقاء كنتُ أحلم به منذ زمن.
لكن، يا حبيبتي، ما أشدّ مرارة الأخبار حين تعاند الحب! جلستُ أمس على مائدة صغيرة، أحتسي قهوتي وأكتب إليك، ثم التقطت أذني نشرة الأخبار تحمل أسوأ ما يمكن أن يُقال لعاشقٍ يتهيأ للقاء معشوقته: توقف الطيران المدني والعسكري لمدة شهر كامل بسبب مشاكل سياسية تعصف بالبلاد.
تخيّلي وقع هذه الكلمات على قلبي. كأنها سهام غادرة اخترقت حلمي الصغير، وكأنها رسالة قاسية صيغت خصيصًا لتفصل بيننا. كم هو مؤلم أن أتمّ كل إجراءات السفر، وأعيش ليلة كاملة أعدّ لحظة العناق الأول، ثم يأتي القرار ليُطفئ هذا الأمل، ويحوّل فرحتي إلى رماد.
أشعر أن العالم كله تواطأ ضدي وضدك، وأن السياسيين الذين يتحدثون عن مصالحهم، لا يدرون أنهم صادروا حقنا في لحظة حب، ومنعونا من لقاءٍ كانت الروح تتعطّش إليه.
ومع ذلك، يا جميلة، لن يهزمنا خبرٌ عابر، ولن تفصلنا قرارات لا روح فيها. سأبقى أكتبك في دفاتري، وأرسمك في خيالي، وأزرعك في دعائي. وإن طال الغياب، سيبقى قلبي معلقًا بك، وسأظل أؤمن أن الخطوات التي تجمعنا قادمة لا محالة، ولو تأخرت بفعل القدر.
نامي قريرة العين، فالمحبة التي بيننا أعمق من كل الحواجز، وأقوى من كل إيقاف، وأبقى من كل طيران.