نعيش اليوم في مجتمعٍ أنهكه الفساد وتعددت فيه وجوه الانتهاك، حتى باتت مؤسسات الدولة غائبةً عن أداء دورها الطبيعي، واستحال الحكم لعبة تتناوبها أنظمة عسكرية وأخرى مدنية، أو ما هو أسوأ: شراكات هشة بين الطرفين. وللأسف، لا يحمل أيٌ من هذه التجارب في طياته ما يُدرّس للأجيال سوى الفشل المتكرر، والفساد المستمر، وتغليب المصالح الحزبية والشخصية على حساب الوطن.
من يتصدرون المشهد، لا يرون في المنصب العام مسؤولية وطنية، بل سلّماً لتحقيق طموحاتهم. يغضّون الطرف عن مطالب الأطفال في التعليم، واحتياجات العجزة في الرعاية، وتطلعات الشباب الذين إن انطفأت طاقتهم، انطفأ أمل الوطن.
في ظل هذا الغياب، نشأت منظمات المجتمع المدني كبديلٍ مؤقت، لتملأ فراغ الدولة في تقديم الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمياه. بدأت هذه المنظمات، خاصة الوطنية منها، بالانتشار في المناطق المتضررة بالحرب والنزاعات، مستثمرةً تقصير الدولة كبوابة للدخول، في حين شقت المنظمات الدولية طريقها عبر ملفات الإغاثة والتنمية.
لكن ما بدأ بوجه إنساني، لم يلبث أن تلون بملامح أخرى. أصبحت بعض هذه المنظمات وكراً لفسادٍ ناعم، تتوارى خلف عبارات "العمل الطوعي" و"المشروع التنموي". من ينظر في خططها وتقاريرها يجدها براقة، مُحكمة البناء، ومشحونة بالأهداف النبيلة، حتى ليحسبها طوق نجاة لآلاف المستضعفين. لكنها في كثيرٍ من الأحيان، لا تُنفّذ كما كُتبت.
الواقع يكشف أن ما يُعلن على الورق يختلف عمّا يُطبق على الأرض. ففي فقرات الميزانيات تجد بند "فريق طوعي" يشير إلى تنفيذ مجاني، بينما الحقيقة أن المشروع يُنفذ عبر طواقم مدفوعة الأجر، بعضها من داخل المنظمة نفسها، ويُعاد تدوير نفس الأفراد في المشاريع المختلفة دون الوصول الحقيقي إلى الفئات المستهدفة.
تتعدد صور التلاعب، من تضخيم الفواتير، إلى إعادة صياغة المشاريع بشكل يُرضي المانحين دون أثر فعلي على المجتمعات الهشة. وقد اكتسب المنفذون خبرة كافية في التعامل مع أدوات المحاسبة والمساءلة، بدءًا من مراجعي المنح، إلى مفتشي المالية المركزية، فصاروا يحترفون الطهي المحترف لتقاريرهم، ليبدو كل شيء سليمًا... بينما الحقيقة لا تزال مُرة.
وفي جانب العمل التوعوي، تُصرف ملايين الدولارات في تنفيذ ورش تثقيفية لا يحيط بها أي نظام رقابة فعّال أو شفاف. فالمراقبة الوحيدة تتمثل في انتظار الفواتير النهائية وبعض الصور التوثيقية التي تُرفق في نهاية المشروع. هل يُعقل أن تكون هذه وسيلة كافية لمتابعة ملايين تصرف باسم التوعية؟!
لقد أدرك الفاسدون، والمفسدون، وحتى بعض المانحين أنفسهم، أن لا أحد يسأل "أين صُرفت هذه الأموال؟" بل فقط: "أين هي الفواتير؟" والنتيجة؟ أن يحصل كل طرف على "نصيبه" من هذا الفساد المركّب، ثم تُجمع الصور التوثيقية، وتُوزع في مجموعاتهم المغلقة، في مشهد ساخر من كل معاني الشفافية والمساءلة.
لكَ الله يا وطن، بين فساد الحكم وادّعاء الإحسان، تضيع الحقوق باسم التطوع، وتُستهلك المعاناة في سجلات التمويل.