(١)
أخبرني يومًا أستاذٌ جامعيّ كبير، يُعَدّ من أبرز القامات في علم الاجتماع المصري، هو الدكتور محمد الجوهري، حين بُحتُ له بأنني لم أكتب كل ما قاله الناس، وشعرتُ أن أحاديثهم بلا قيمة في أحد الأبحاث.
ابتسم بهدوء العالم وخبرة الميدان، وقال لي:
"حديث هؤلاء أهم من حديثي أنا شخصيًّا."
منذ تلك اللحظة، أدركت أن الكلمة التي تخرج من قلب الناس البسطاء لا تقلّ عمقًا عن أي نظرية علمية.
صرتُ أُثمن كلامهم، أعتبره جوهر الحكاية وصوت الأرض حين تنطق.
أضع كلماتهم بين قوسين في “المانشيتات” الصحفية وأنا مؤمنة بها، وأترك أصحابها على راحتهم أمام الكاميرا من أجل توثيقها كما هي، نقيةً وصادقة.
تداخل هذا الدرس في ذهني مع حديثٍ آخر لا أنساه للراحل صلاح عيسى، حين سألته في حوارٍ صحفيّ عن معنى المقاومة، فأجابني:
"الأغنية مقاومة، والسينما مقاومة، والأمل نفسه مقاومة."
---
(٢)
عادت إليَّ تلك الأفكار حين استيقظتُ صباحًا أبحث عن كلمةٍ تُضيء سطورًا عن الوثائقي المنتظر عرضه اليوم بعنوان: "الحرب والناس".
بدأت يومي بمرافقة ابنتي إلى المدرسة، وكنتُ طوال الطريق أفكر في الكلمة التي تُنصف الفيلم، وتليق بتعب شهورٍ طويلة شاركني فيها زملائي بكل ما فيهم من حبٍ وإصرارٍ وإيمانٍ بما يفعلون.
عدتُ إلى البيت وفتحتُ الراديو، فصادفتني أغنية ياسمين الخيام وهي تقول: "الكنز اللي اسمه المصريين."
ابتسمتُ، وشعرتُ أن الجملة ربما تكون هي الكلمة التي أبحث عنها.
تذكّرتُ ما كتبته نادية لطفي في صفحات "الفن في المعركة" حين قالت:
"أعترف أنني شعرتُ بالحرج عندما زرتُ الجبهة."
تراجعتُ وأخبرتُ نفسي: ربما هذه هي الكلمة التي أبحث عنها.
ثم عصرتُ ذاكرتي لأتذكّر مقابلتي مع جنديٍّ مصريّ شارك في حرب أكتوبر، يعيش اليوم في السويس.
كان يُخرج من جيبه صابونةً صغيرة كانت بحوزة جنديٍّ إسرائيليّ أُسِر عام 1973، ويفتخر بأنها من غنائمه التي لا ينساها.
ثم مرّ بخاطري بيتُ الشعر الذي كتبه فؤاد حداد:
"أجمل ما في الدنيا أكتوبر اللي انتقم ليونيه."
قلتُ في نفسي: ربما بيتُ فؤاد حداد هو الكلمة التي أبحث عنها.
---
(٣)
تذكّرتُ دموع الناقد الرياضي حسن المستكاوي وهو يروي كيف سار في شوارع لندن يبكي حين سمع بنبأ انتصار مصر في أكتوبر 1973.
تأملتُ 2314 يومًا مرّت على المصريين من 5 يونيو 1967 حتى 6 أكتوبر 1973، وكيف عاشوا تلك السنوات العجاف، وكان زادهم الوحيد كلمةً واحدة: "هنحارب."
الكلمة التي التقطها بذكاء يوسف شاهين في فيلم "العصفور."
توقفتُ عند عام 1969، العام الذي أتمّت فيه القاهرة ألف عام، وصنعت فيه مصر احتفالًا كبيرًا جعل الثقافة في مواجهة النكسة، والعالم أمام وجهٍ لا يُدرك بعدُ قيمته.
في تلك اللحظة، كان هناك جنديٌّ مصريّ على الجبهة يُكبد العدو ثمن دخوله أرض الوطن، وسيدةٌ تُفصّل ملابس الجنود، وأخرى تستغني عن طعامها من أجل كرامة وطنها، وفنانٌ يزور الجبهة، وعاملٌ في الحديد والصلب يضاعف وردياته ليمدّ الجبهة بالسلاح لبناء حائط الصواريخ، وطفلٌ يتبرع بتورتة عيد ميلاده وهو يُدرك ما يحدث.. لهم جميعا هذا الفيلم❤️
كانت المقاومة حياةً كاملة تُمارَس باليد والقلب والفكرة.
فكّرتُ في كل تلك اللقطات، ثم قررتُ أن أترك لكل مشاهد أن يرى ما يشاء.
من المؤكّد أن لكلٍّ منّا كلمته المناسبة عن تلك السنوات الستّ الثقيلة من الصبر والإيمان، حتى لحظة النصر.
9
"الحرب والناس" في ٣ مواعيد اليوم
بعد قليل ٣ عصراً
و ٧ مساءً
و ١١ مساءً على شاشة الوثائقية AlWathaeqya
تحية محبة واعتزاز لكل زملائي في الفيلم، فردًا فردًا، ولإدارة القناة التي آمنت بالفكرة حتى صارت واقعًا يستحق أن يُرى.
مخرج الفيلم : Motaz Mokhtar
كتابة تعليق صوتي: Belal Momen
برديوسر: Hagar Mohammed
مونتير:محمد عبد الهادي
تعلق صوتي : Rawaieh Samir
تصوير: Beshoy Atef Naeem
أتمنى لكم مشاهدة ممتعة