ما قلبكِ يا أمي؟! أم هل تمتلكين قلبًا أصلًا؟!
هذا ما قالته الفتاة حينما دفعتها أمها بعيدًا عن حضنها، تلك الفتاة التي تمنت لو تحظى بكلمة طيبة أو لمسة حنان. وإن ضاق قلب الأم بابنتها، فمن ذا الذي سيحتويها؟
تلك الأم التي أنجبت، لكنها عجزت عن منح الحنان لأبنائها، لا قدرة لها على الاحتواء، ولا صبر على الاستماع.
فما الذي يفصل بين الأم وأولادها؟
أهو الجيل الذي يحمل أعباء الماضي على كتفيه؟ أم هو المستقبل الذي يراه الابن مليئًا بالفرص التي لا يعترف بها أبواه؟!
فما ذنب الصغار ليعيشوا كآبةً رهن قسوة أهلهم؟ ما أقبح اليُتم حين يكون الأهل موجودين!
نتأمل في كل بيت، على مرّ العصور، فنجد فجوة غير مرئية بين الآباء والأبناء؛ فجوة لا يُدرك أحد ماهيتها تمامًا، لكن الجميع يشعر بوجودها. كأنها جسر من حواجز عاطفية وفكرية فصلت بين جيلٍ تربّى في زمن رتيب قديم، وآخر يسير في عصرٍ تتسارع فيه الأيام وتتغيّر فيه العادات.
كلا الطرفين يحاول التمسك بما تبقّى من أمان وتصورات عن الحياة؛ فالأب يرى في ذاته مرآة للثبات، بينما يراها الابن قيودًا قابلة للكسر. الأب منغلق على أفعاله المعتادة، والابن يعيش في عالم مفتوح، مليء بالأفكار الجديدة والطموحات اللامحدودة.
ذلك الأب الذي يتنقل بين مشاعره المتناقضة، لم يعد ذلك الشاب الذي واجه التحديات بشغف، بل صار رجلًا تغلب عليه مرارة التجارب وهدوء السنين.
يظن أن الجميع بحاجة إلى ما عاشه، فيُلقي نصائح مدة صلاحيتها منتهية، ناسياً أن الزمن لا يعيد نفسه.
فلا هو يدرك ما يدور في عقول أبنائه، ولا هم قادرون على فهم لغته؛ إنهم في عالمٍ مختلف، وسياقٍ زمني تتلاشى فيه المعتقدات القديمة أمام سرعة التقنية وانفتاح الآفاق.
يشعر الأبناء أنهم محاصرون بين توقعات آبائهم وأحلامهم الخاصة، التي لا تتناسب مع واقعٍ صنعه جيلٌ آخر. يحاولون أن يشرحوا اختلافهم دون أن يُساء فهمهم، فيظهرون كضائعين في بحرٍ من الفراغات، يبحثون عن ذواتهم في أشياء لا قيمة لها.
بينما يسعى الأبناء لإثبات وجودهم، يقع الآباء في فخ الخوف من فقدان السيطرة على حياتهم.
الاختلاف هنا ليس مجرد تباين في الرأي، بل هو صراع جيلين متناقضين في رؤيتهما للحياة.
في نظر الأب، التغيير تهديد للقيم؛ وفي نظر الابن، التمسك بالقديم حجرٌ يعوق خطواته نحو المستقبل.
لا يستطيع أحدهما أن يفهم الآخر تمامًا، ومع ذلك، يسعى كلٌّ منهما لتبرير تصرفاته وفق رؤيته الخاصة للحقيقة.
ومع تطور العصور وابتكار التكنولوجيا، اتسعت الفجوة بين الماضي والحاضر، حتى أصبح الفرق بين تفكير الآباء والأبناء كبعد المسافة بين الأرض والسماء.
لكننا لا نُلقي باللوم على أحد، فالحقيقة الواضحة أن هذه الفجوة، مهما اتسعت، يمكن أن تُغلق إذا وُجدت إرادة صادقة للتفاهم.
ليس بالضرورة أن تتطابق الآراء، لكن يمكن أن يلتقي الجيلان على أرض الحوار الهادئ، أن تُحلّ الخلافات بالحكمة، وأن يخصص الآباء وقتًا للاستماع لأبنائهم.
اقتربوا منهم لتفهموهم، دعوهم يكشفوا لكم خبايا قلوبهم كي لا توجعوهم.
لا تجعلوا هموم الحياة تسرق منكم دفء العطاء، ولا تتركوهم للغرباء يسمعون شكواهم، فينهشون قلوبهم كالذئاب.
تفهّموا حاجاتهم العاطفية قبل أن يبرد حنانكم في أعينهم.
فإن تماسك العائلة يبدأ من اهتمام الآباء بها، فالعلاقة بين الآباء والأبناء ليست قوانين ونصائح، بل حياة تُبنى على الفهم والاحترام.
إن الفجوة لا تُغلق بسهولة، لكنها تُجسَر حين يتوقف كل طرف عن محاكمة الآخر وفق زاويته الخاصة، ويُدرك أن لكل جيلٍ تطلعاته وأحلامه.
ختامًا:
قد لا يلتقي الجيلان عند نقطة واحدة، لكن في لحظات الفهم العميق، يجد كل طرف جزءًا من نفسه في الآخر.
وربما عندئذٍ فقط، ندرك أن الفجوة بين الآباء والأبناء تقلصت، وأن عبورها ممكن إذا كان في القلب إنصات أكثر، وحكم أقل.





































