تمر علينا في أيامنا المباركة هذه، إجراءات الحج الأكبر، بأركانه وفرائضه وسننه، نتابع فيها حركة الحجيج في المناسك، بين طوافٍ بالبيت الحرام وسعيّ بالصفا والمروة، وترويةٍ بمنى وتصعيدٍ لعرفات، ثم النفرة من عرفاتٍ إلى المزدلفة، ومنها إلى أعمال يوم النحر بمنى والبيت الحرام، وما يلي ذلك من رمي للجمار في أيام التشريق.
وفي الحقيقة، تلك الرحلة الروحانية الجميلة، التي تصبو إليها القلوب، لِتحج البيت من كل فجٍ عميق، أعتبرها رحلةٌ أولى للتجرد إلى الله، حيث أن لنا رحلة أخرى من التجرد إلى الله، لكنها مؤجلة لأجلٍ مسمى.
فالرحلة الأولى، رحلةٌ يتجرد فيها الإنسان من كل بهرجة الدنيا وزخرفها، من كل متاعها ولذتها، من شهواتها وملذاتها، ليرحل العبد فيها -طوعًا- من الدنيا صوب "ثواب" الآخرة، بلباسٍ بسيط يستر به نفسه وظيفيًا، دونما أي ثراءٍ في الملبس أو المظهر، يترك فيها الحاج ما اعتاد عليه من الترف والراحة، ليرحل إلى الله في مكانٍ يغلب عليه الجفاف والحر وقسوة التضاريس، يقدم فيها الحاج نفسه متجردًا، ومِن مُتعِهِ مُجردًا في رحلته الأولى إلى الله.
تلك الرحلة الأولى تتشابه ولا تتطابق مع الرحلة الثانية، التي يتجرد فيها الإنسان إلى الله أيضًا كرحلة نهاية، حين يرحل الإنسان فيها من الدنيا إلى الآخرة، حيث يتجرد من كل مُتعِهِ الدنيوية أيضًا، ولباسِه الوثير ومالِه الكثير، ليلتف هذا الجسد بكفنٍ أبيض يشبه لباس الحجيج، يُقدِّم الإنسان فيها نفسه -كرهًا- لخالقه ليس معه مما جمعه في دنياه من شيء، يغسلونه قبل الكفن كما هو الحال من الاغتسال قبل الإحرام، وتسير الجنازة في إجراءات محكمةٍ أيضًا حتى تأتي نهايتها، فيتم فك رباط الكفن في موضع القبر كما هو التحلل من الإحرام في موضع نهاية أعمال يوم النحر في الحج.
إن التشابه في رحلتيّ التجرد إلى الله لكثير، غير أن الحاج يكون مازال لديه فرصة لتقويم النفس ورد الحقوق -إن وجدت- وضبط المسير قبل الوفاة حين عودته من رحلة التجرد الأولى، في حين لا يكون له ذلك في رحلة التجرد الثانية، والتي يقوم بها له غيره، عبر أيادٍ قد لا تعبأ ولا تهتم إلا بإنهاء دفنه بأسرع مما يكون.