إلى أولئك الذين يخوضون معاركهم في صمت،
إلى من تُقام داخل عقولهم ألف حرب... ولا يسقط فيها سوى الأمل.
كل الحروب، يا صديقي، تبدأ من الداخل: من نِقاش عابر، من خوفٍ دفين، من جملةٍ تذكّرتها في لحظةِ ضعف، من موقفٍ لم يُغلق في قلبك كما ينبغي.
لا تحتاج سوى شرارة صغيرة،
كلمة، نظرة، أو حتى صمتٌ طال أكثر من اللازم... فتشتعل داخلك أكبر معركة نفسية، تصبح كرة ثلجٍ تتدحرج بسرعة، تكبر وتكبر، حتى تصير صخرةً ضخمة، تحطم كل شيء: علاقاتك، قراراتك، ثقتك بنفسك، وإيمانك بمن حولك.
للأسف، يا صديقي، أنت تعيش بين الناس، لكنك تسكن في رأسك.
جعلت من رأسك غرفة عمليات موسعة، تدير منها حروبك العبثية من وجهة نظرك أنت فقط.
تعيد كل جملة قيلت لك مرارًا،
تستعرض الاحتمالات كأنك تُحقّق في جريمة وجودك، تُحاكم نفسك ومن حولك على أخطاء غير موجودة، وتُعاقب الآخرين على نوايا لم يُصرّحوا بها أبدًا.
في أعماقك، كل شيء يبدو خطرًا...
من وجهة نظرك الخاصة، الجميع متهم، كل نية مشبوهة، وكل موقف محمّل بتأويلات لا تنتهي.
وقد فسّر عالم النفس الشهير "فرويد" ذلك، حين قال "إننا نعيش حياتنا بوعيٍ صغير، لكن يقودنا عقل باطن ضخم،
يحمل في أعماقه تجارب الطفولة، الخوف، الذكريات المؤلمة، والرغبات المكبوتة.
ومتى ما صعد هذا العقل الباطن إلى السطح، تبدأ الحروب التي لا نراها...
وتقودنا مشاعر لا نفهمها... لكننا نصدّقها حدّ القتال".
للأسف يا صديقي هؤلاء الذين يُحاربون داخل أنفسهم، لا يخطئون في نظرهم؛ هم دومًا على صواب.
كل نصيحة تُرفض، كل رأي يُعارض، وكل فكرة مخالفة تُهاجم.
يرون في الرفض وسيلة إثبات للذات، لا أداة للتفكير.
وكل ما هو ممنوع مرغوب، وكل ما يأتي من الأخر مشكوك فيه.
وفي خضم هذا الصراع الداخلي، تظهر أزمة الجيل الجديد:
بعض الشباب لا يريد الكفاح، لا يتقن الصبر، لا يعترف بالجهد ولا العرق.
يريد كل شيء أن يسير كما يريد هو، لا كما يفرضه المنطق والواقع المُعاش، ويُحمّل الآخرين — وخاصة أهله — مسؤولية كل تعثّر.
وكأن الأهل كُتب عليهم أن يُكافحوا نيابةً عن الجميع: عن أنفسهم، وأولادهم، وحتى عن أحفادهم!
هل يبدو هذا عادلًا؟
هل من الإنصاف أن يرث الأبناء جهد الآباء دون أن يدفعوا من أرواحهم شيئًا من ثمن الطريق؟
أليس في ذلك تدمير للذّة الصبر والكفاح، وجني ثمرة جهادك في الحياة حتى تشعر بطعم النجاح وروعته؟ أصعب ما في هذه الحروب، يا صديقي، أنها بلا جبهة، ساحتها الوحيدة روحك، حرب بلا هدنة.
العدو فيها هو عقلك...
والضحية هي قلبك.
فكيف تُشفى إذًا؟
عليك أولًا، يا صديقي، أن تُدرك أن ما تفكر فيه ليس دائمًا حقيقة، بل نتاج أوهام وتراكمات نفسية بسبب الفهم الخاطئ.
أن تُراجع أفكارك دون خوف، بل بشجاعة ومصداقية.
أن تتصالح مع نفسك، وتتوقف عن جلدها.
أن تسمح للآخرين أن يقتربوا،
استمع لا لترد... بل لتفهم.
اختر الهدوء لا الهجوم، والإصغاء بدل التأويل.
فالعقل الذي لا يُراجع نفسه، يصبح سجنًا لصاحبه، والنفس التي لا تُداوى، تتحول إلى حلبة صراع لا تنتهي.
والأن يا صديقي، هل يمكنك إخباري: متى كانت آخر مرة تصالحت فيها مع نفسك؟
متى قلت لها: "كفى جلدًا، كفى شكًّا، كفى حربًا... أريد أن أعيش."
توكل على الله حق توكّله، قم بما عليك فعله، ابذل الأسباب ودع النتائج يقدرها الله كما يشاء، وثق أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
ليكن يقينك بالله راسخًا لا يتزحزح، مهما كانت النتائج ثق أنها لمصلحتك فرب الخير لا يأتي إلا بالخير.
ولا تنسى أنه في كثير من الأحيان، يكون الفشل هو بداية النجاح الحقيقي،
في النهاية لا يسعني إلا أن أقول أحسن ظنك بالله "ومن أحسن ظنّه بالله... لا يخيب".






































