على أرصفةِ الانتظارِ الباردةِ يقفُ كثيرون، يعلّقون قلوبَهم بين ماضٍ يحنّون إليه ولا يستطيعون الرجوعَ إليه، ومستقبلٍ يتمنّونه ويخشَون المضيَّ نحوه. فيظلّون عالقين، كأنّ الزمنَ قد توقّف عندهم؛ لا يتقدّمون خطوةً، ولا يتراجعون خطوةً. هؤلاء هم من أسمّيهم أسرى أرصفة الانتظار؛ حيث لا قطارَ يمرّ، ولا بشارةَ تطرق الباب، ولا حياةَ تُستعاد.
الحياةُ الحقيقيةُ لا تعترفُ بالجمود، ومَن لا يتحرّك يعاقبْه الزمنُ وتصفعْه عقاربُ الساعةِ بلا رحمة. ومَن يظنُّ أنّ الوقوفَ آمنٌ، يخسرْ أعوامًا كان يمكن أن يزرعَ فيها خيرًا، أو يبنيَ فيها مجدًا، أو حتّى يتذوّقَ فيها جمالَ اللحظة.
لكن، ما بين التوقّفِ والحركةِ، ثمّة قيمةٌ عُليا يغفلُ عنها الكثيرون: الصبرُ وحُسنُ الظنِّ بالله. فاللهُ حين يؤخّرُ عنك أمرًا، لا يحرمه منك عبثًا، بل يدّخر لك ما هو أنسبُ وأبقى. ومَن أيقن أنّ رحمةَ اللهِ وسِعَت كلَّ شيء، علِم أنّ الانتظارَ مع العملِ وبذلِ الجهدِ ليس ضياعًا، إنّما هو امتحان، وأنّ الضيقَ ما هو إلّا تمهيدٌ لانفراجٍ قريب.
وإذا كان الزمنُ يعيدُ ترتيبَ أوراقِنا بصرامة، فإنّ محطّاتِه تحملُ دروسًا قاسية. كنتُ قد قرأتُ يومًا حكمةً أثّرت فيَّ كثيرًا، تقول: إنّنا جميعًا، وفي مراحل الحياة المختلفة، نمتلك مثلّثًا من ثلاثة أضلاعٍ لا يجتمعون سويًّا أبدًا، وهي: الصحة، الوقت، المال.
نبدأ حياتَنا ونحن نملك الصحةَ والوقت، لكن لا نملك المال.
ثم تأتي مرحلةٌ نملك فيها الصحةَ والمال، لكن يضيع من بين أيدينا الوقت.
حتى نصل إلى آخر الطريق فنجد بين أيدينا المالَ والوقت، وقد فقدنا الصحة.
تلك المفارقةُ العجيبةُ تذكّرنا بأنّ أعظمَ ما نملك هو الآن؛ هذه اللحظةُ التي تمرّ ولا تعود. فمن أدرك قيمتَها، لم يرضَ أن يظلّ واقفًا على رصيفٍ خاوٍ ينتظرُ معجزة، بل مدّ يدَه وسعى، واضعًا ثقتَه بالله، عارفًا أنّ الرجاءَ عنده لا يخيب.
فلنلتفتْ إذن إلى نوافذِ الأملِ المُشرَعةِ نحو السماء، ولنجعلْ أرواحَنا مسافرةً دومًا، لأنّ قطارَ الحياة لا يمرّ عبر أرصفة الانتظار، إلّا لأولئك الذين بذلوا ما استطاعوا ليكونوا إنسانًا.
الحياةُ قرار، فإمّا أن تكون مسافرًا… أو تبقى عالقًا للأبد على قوائم الانتظار.