شعور غريب هذا الذي انتابني وأنا أقطع الشارع في طريقي إلى المنزل بعد يوم عمل روتيني معتاد
نفس الطريق ونفس الباعة على جانبيه ونفس زحام السيارات ... لكن ثمة إحساس مبهم بأن شيء ما مختلف
أشعر بنشاط غير عادي ... وخطواتي تنساب على الطريق بسلاسة عجيبة ... تسري ولا تخطو
ثم هذا الشارع الجانبي ...كيف لم أره من قبل ..!!
يبدو إنه طريق مختصر إلى البيت ..،
بالفعل قادني إلى البيت مباشرة ولكني لا زلت في حيرة من أمري بشأن هذا الشارع الذي نبت فجأة من العدم ..!
ألتفت مجدداً اتأمله ..فلم أجده !!!
إلتحم الجدار كأني لم أعبر من خلاله للتو ...!!
غريب هذا ...!!
صعدت درجات السلم القليلة ووقفت أمام باب الشقة فقط لأكتشف أن حقيبة يدي ليست معي..، إذاً فمتعلقاتي كاملة بما فيها المفاتيح في عداد المفقودات
ما هذا ....كيف ضاعت الحقيبة ؟؟ وكيف لم أشعر بضياعها ؟؟؟ هل أنزل لأبحث عنها في الطريق ؟؟أم أنادي حارس العقار ؟ أم أذهب إلى بيت جدتي القريب ريثما يعود أخي أو أبواي ؟؟
هممت بالنزول لولا أني وجدت الشقة مفتوحة علي مصراعيها والباب تلاشى بالكامل ..!!
ماذا يحدث اليوم ...؟؟
غريب هذا ....!!
بالداخل كنت أري الأسود يغطي كل شيء ... حتي الهواء نفسه أراه أسودا ..،، كم هائل من الكآبة والحزن يغمر كل شيء ..
وجوه أعرفها وأخري تلوح لي للمرة الأولي ...من هؤلاء ...؟؟ هل هذا هو بيتي فعلا ؟؟
غريب هذا ...!!
السواد يتبدد أمام ناظري ويتكثف حول غرفتي بشكل خاص ..بالداخل كانت والدتي وحولها عدداً من النساء أعرفهن جميعاً ... أمي تحتضن شيء ما وتبكي ... عيناها وتقاسيم وجهها المحبب يبدو عليهم الذبول وهمهمات النحيب تطغي على الحروف فلا أكاد أتبين ما تقول ... ماذا حدث ؟؟ لماذا تبكي أمي ويقبل أخي جبينها باكياً ويتربع أبي على الأريكة غير قادراً على الحركة ؟؟
إقتربت منها أكثر ... السواد ينقشع من حولي
الآن أري ما تحتضنه أمي وأسمع ما تقول ...
الآن أعرف كل شيء
لو لم تكن هذه منامتي فماذا تكون ؟؟ ولو لم تنوح علي أمي فمن ينوح ؟؟
إقتربت منها أكثر .... ليت لي جسداً أستعين بمحجري عينيه للبكاء ..،، البكاء نعمة لا يدركها إلا مثلي
طوقت أمي رغم علمي بأنها لا تراني ... وقبلت جبينها ..أو أظنني فعلت ... ولدهشتي أسمعها تقول إنها تجد رائحتي حولها ..!!..،، يتزايد إنهمار الدموع وعبثاً تحاول جارتنا إقناعها بأن ما تفعله ليس إيماناً بالله ..واعتراضاً علي قضائه ... لكنها تقسم إنها تشم رائحتي وتشعر بي حولها فلا يزد النسوة سوى مصمصة الشفاة
" نعم يا أمي ... أنا حولك وبجانبك ..تشطرني دموعك ويخفف عني إحساسك بي ..."
ألقيت نظرة أخيرة على الجمع الحبيب ...أبي ..، أمي ..، أخي ... صديقاتي ..، جيراننا ، أقاربنا .. زملاء العمل
"أحبكم جميعاً ... أدعوا لي "
الآن أدرك كينونتي الجديدة كشبح ...لم يعد لي وجود مادي وبإمكاني الطيران فوق السحاب او الإنسياب عبر الأبواب المغلقة
أخرج من شباك الغرفة وأحلق عالياً عالياً ...
القاهرة ... مدينتي الحبيبة ..مدرستي ..، جامعتي ..، عملي ..، النيل ..، الأهرام ...
وداعاً ...
من جديد أشعر بحاجة ماسة لمحجري عينين أبكي بهما
ترى أين محجري عيناي الآن..؟؟ أهاب مجرد الفكرة ..!!
************************************************** *****
إلي هنـــاكـ
ــــــــــــــــــــ
نعم ... أعرف الطريق جيداً برغم أني لم أدخل سيناء أبداً ..!!
هذا معبر رفح الذي تحطم قلبي عليه مراراً ...،، تجاوزته أخيراً ... ولكن بعد فوات الأوان ...،،!!
هذه غزة ... غريب أنني أعرف كل حجر فيها ...أقسم أني لم أرها من قبل ..،
هذه رفح الفلسطينية ... خانيونس ... الوسطى ... شمال القطاع
هنا إستشهد الشيخ أحمد ياسين ... وهنا قصفت سيارة الدكتور الرنتيسي .. وهناك منزل الشهيد الشيخ نزار الريان
وهنا مقابر الشهداء
كيف عرفت انهم شهداء ..؟؟ لو كنت مثلي تري ما أراه لعرفت وحدك بلا دليل
هذه الكيانات تشبهني .. لكنها أبهي صورة وأكثر ضياء ..
تحفهم الملائكة ويتضاحكون فيما بينهم ويتعارفون ...
ثمة شاب صغير السن جلس إلى قبر أخيه يبكي ..ولا يعرف أن أخاه الآن فوق رأسه يرمقه بحنان بالغ ويربت على شعره المتناثر المغبر بتراب المقابر
إن الأخ يحدثه بأنه في خير حال ... ويبشره بأنه سيلحق به قريباً
لكن لا يبدو أن الشاب الإنسي قد سمعه إذ ينخرط في بكاء يمزق نياط القلوب
هنا أشعر بقطعة من الجنة ... سلام وطمأنينة ونور بهي يشع من كل شيء حولي
ترى هل لو كنت زرتها في حياتي كنت سأراها كما أراها الآن ..؟؟
كلا ... إن الإنسان ضيق الفكر محدود البصيرة لا يرى في غزة إلا الدمار والحصار
فماذا لو كشفت الحجب ليرى ما أراه الآن
كل حجر سقط أستبدل مكانه قصراً مهيباً يقطن فيه شهداء المكان ...منزل الشهيد نزار الريان يرتفع إلى عنان السماء ليخترق السحاب فما فوقه والشيخ ياسين يتفقد غزة علي قدمية بابتسامة تعلو ثغره كلما لمح تدريب لجماعة هنا أو فصيل هناك
هنا غزة
غزة الأحبة .... ترى هل يذكرني الأحبة بها بعد وفاتي ؟؟ أم أنني تحولت لأقصوصة أخرى من قصص الأحبة الذين مضوا وشغاف القلب يعربد فيه الحنين ؟؟
أدخل بيوتهم أتفقدهم ...أراهم للمرة الأولى ولا يروني ...
أبتسم في حزن وشفقة ...بعضهم ينكب علي القرآن يقرأ لي ويبكي
أطوف حولهم ...ترى هل تشعرون بي الآن .. أنا بجانبكم .. لست على ماسنجر ولا موقع إلكتروني
يمزقني الحنين ويشق على نفسي عذابكم لموتي كما حياتي
غداً ...قد تنسوا رفيقة مسنجرية أحبتكم بصدق وتألمت لألمكم وألفت روحها مقامكم في الحياة وما بعدها
لكني لن أنساكم ...
************************************************** *****
أكثر فأكثر ..!!
ـــــــــــــــــــــــــ
الآن أرتفع أكثر فأكثر .... وتتضح الرؤية أكثر ويرق السمع أكثر
أسمع تراتيل كهنة التبت ... وآذان قرية صغيرة في صعيد مصر
أسمع صرخات الأطفال المواليد ... وحشرجات الرمق الأخير من الأحياء وصراخ آل القبور
أسمع الطائرات الإسرائيلية تقصف هدفاً هنا والمقاومة الأفغانية تفجر دبابة أمريكية
أرتفع أكثر فأكثر
صهيل خيول صلاح الدين ....
الدخان يتصاعد من اليابان بعد ضربها بالأسلحة الذرية على شكل فطر عيش الغراب..،
آسيا تحتضن موسي الرضيع .. وعلى بعد قريب يسرع عمرو بن العاص الخطى لفتح مصر
ما هذا ماذا يحدث
إن الأرض تختزن كل شيء ولا تنساه أبداً..، كان الحاجز الزمكاني يتساقط حولي لأدرك أنني هنا أنتمي لكل الأمكنة وكل الأزمنة وأعتصر من لب الارض بواطن المكنون فيها
أرتفع أكثر فأكثر
أرى الأرض من منظور كوني كعين كبيره تقطر دماً ....
المجموعة الشمسية ...كم هي بديعة رهيبة ...كم يبلغ ضآلة حجم الإنسان من شيء كهذا
مجرة درب التبانة
أرتفع أكثر فأكثر
ثم
ظـــــــــــــــــــــلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ