في الشتاء كانت الأرض مرعى كبير, الحشائش تغطي الجبال والسهول, والماء يتدفق من الأرض, ويهطل من السماء, يروي الأرض, لتخضر, ويكسو كل شيء, الرذاذ المتساقط, والندى ورائحة الكون البكر, تفوح من جسدها الممدود, على رمل شاطيء الحياة, يخرج فتا في العشرين من عمره, يحمل عصاه, ويهش على غنمه, يتركها ترعى, ويتمدد ناظرا في الأفق, مطرقا رأسه حينا, متفكرا في جمال الطبيعة, والحياة التي لا يضاهيها شيء, كانت الأرض عروس, كل شيء بكر, لا خطيئة, لا إثم, لا شيء سوى الجمال, النابع من أعماق الأشياء, لم تعرف بعد آفات النفوس, ولماذا وهي في بداية عمرها مقبلة غير مدبرة؟ طفولة بريئة ونفس زكية نقية, لا تعرف سوى الحب دينا وعقيدة, أشعة الشمس التي تنشر أشعتها في ربوع الأماكن, لا تترك جانب من الأرض, إلا أضاءته تعكس ما في القلب من خير الأرض, واسعة الأطراف, كثيرة الخيرات, تكفي الملايين بعد الملايين, الأجيال بعد الأجيال, لن يكون هناك نزاع على الأرض, ولماذا يكون؟ وكل شيء ميسر لنا جميعا, سيكون تعاون يزيد من جمال الحياة, وروعتها سيكون نور في كل نفس, ورحمة, سيكون أفرع الحُسن, المعلقة في رقاب الإنسان, سيحيل الأرض إلى بستان كبير, يوزع العمل, ويرعى ويسقي ويجني ما بذرت يديه, ليطعم الفقراء, والمحتاجين لن يكون هناك فقير, ولا مسكين, ولا محتاج, سيلهو في جنباتها الإنسان, وهبنا الرب جنتان, في الأرض واحدة, وعندما نصعد إلى السماء الأخرى, سأقدم من أغنامي قرابين الشكر والولاء, سأنتقي من أغنامي أشدها وأقواها, وأذبحها تقربا للرب على نعمائه, وسأجعل أخي يقدم قربانا, هو الأخر, إن أبانا سيسعد بنا, أسوق غنمي إلى حافة النهر, لتشرب, أجلس أراقبها, أرى الأسماك في قاع النهر تتحرك في سرعة خاطفة, الأشجار تحيط بجانبي النهر, متى كانت؟ كيف علت إلى هذا الحد الكبير, العصافير في جو السماء تلقي بصوتها الناعم القوي نغما, يطرب الروح, غزالة هناك شاردة تشرب في أمان, شيء ما يعدو, من بعيد على الحافة الأخرى, يقطع المسافات في سرعة هائلة, إنه يقترب من الظبي, ماذا يريد منه ينقض تعدو الغزالة في خوف, يعدو خلفها الأسد, تضطرب, الغزالة تدور حول نفسها, ينقض عليها, يفترسها دمها الزكي, يسيل على الأرض أنفاسها تتقطع, تتهدج, تلتقط أنفاسها الأخيرة بصعوبة, لماذا؟ ألا تكفينا الأرض مؤنة العيش, ينتشر الرزق في كل مكان, كل الطعام متاح, قسمه الرب لنا بوفرة, راعني الموقف, قتل ودم مسفوك, كنت أظن أن الأرض, لن تعرف القتل, وسفك الدماء, وأن الكائنات تتعاون بعضها مع بعض, فكل سبل الحياة موجودة, لن يكون غير السلام, ترتفع رايته, ويعلو ويكون شعار الجميع, صُعقت للموقف, الذي دار في خيالي, وأعدت التفكير في أمر الإنسان والحياة, فوق الأرض أخذت أغنامي, وعدت إلى الكوخ, الذي يأويني, سألتني أمي عما أصابني, ما سر هذا الصمت, نجلس في ضوء القمر, بالي مؤرق, يسألني أبي أروي له ما رأيت, يربت على كتفي, مازالت صغير, لم تعرف الطبائع بعد, أفترش الأرض, وأنم لأستيقظ مبكرا, لأرعى أغنامي, قمت وصورة الموقف تطارد ذهني, وتطرد النوم من جفني, وأتسأل بيني وبين نفسي, لماذا؟ لكن أخي لم يبالي, فهو رأى ما هو أشد فتكا, بل قتل وذبح في عالم الكائنات, ما يذهلني, لم أعرف ذلك عن أخي, لم أكن أتصور, أن هناك صورة أخرى, لأخي, غير الوداعة والحب والسلام الدائم, والعطف المتأجج في قلبه ونفسه, وبدأت أفهم معنى أخر, وقلت في نفسي لعل هذا في عالم الغاب فقط.
وكانت حياة, والآف من أصلاب الرجال, تقذف بها أرحام النساء, أفراح وأطراح, أتحاد, قتل وتشريد, تتوسع رقعة الشقاق, وتضيق تصير فرق وجماعات, شعوب وقبائل ودول, منذ موتي مقتولا, وصوت الغربة ينعق فوق سمائنا الدنيا, لا يكف قتل وفتك وحروب ضروس, لا تهدأ حتى تبدأ, لا شيء يعلو صوته فوق صوت الدروع, والسيوف والرصاص والقنابل والمدافع, وصوتها لا يغيب عن أذن إنسان في كل عصر, في كل زمان, في كل مكان وفي كل بقعة يقطنها إنسان, الدم صار وسام, علامة وجود الإنسان فوق الأرض, نسي العهد, نسي الحب, أعاد ضبط قلبه من جديد, على غير ما خلقه الله, أغتال النظام, وأعاد الفوضى, طمس معالمه الأولى, ونسي العهد والميثاق, وبدأ التيه.