يقول المولى جل وعلا: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"
أقول وبالله التوفيق:
الوقفة الأولى:
دخل يوسف السجن ظلما وبهتانا وقد رضي هو بالسجن نفسيا وشكليا ليبتعد عن براثن الفتنة حيث قال تعالى على لسان يوسف"قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه....."٣٣يوسف
وطبعا "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن...." ٣٤ يوسف
وهذه قاعدة مهمة جدا (إن لم تستطع أن تزيل الشر فزل عنه) بمعنى إن حاولت أن تدفع الشر وما استطعت فاتركه أنت لكن المهم أن تدفعه أولا وتحاول وقد وضح الأمر ليوسف أن امرأة العزيز مصرة على فعلها "ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين" هكذا قالت فاختيار السجن هنا بعدا عن الفتنة ولكن مؤقتا يسمى هذا في علم النفس الانسحاب ليس ضعفا ولكن كما قالوا تنازل عن بعض حقك مؤقتا لتنل كل حقك لاحقا.
الوقفة الثانية:
عند دخوله السجن "فدخل معه السجن فتيان"
كان وسط أناس إذن لم يكن بمفرده وهذا يجعله يضع الخطة الذهنية في كيفية إيصال الدعوة إليهما أو إلى جميع السجناء فكان اول ما طلبا منه تفسير رؤياهما لكن لماذا من أين جاءت هذه الثقة؟؟؟!!!!
قالاها "إنا نراك من المحسنين" إذن قدم لهما ما يعزز الثقة من صدق وحسن معاملة ومبادرة وحسن ظن ومد يد العون والكثير الكثير الذي يندرج تحت صفة محسن.والداعية كذلك لابد أن يقدم للناس ما يؤهله لنيل الثقة اولا قبل التوجيه والنصح.
****فصل في إحسان يوسف عليه السلام:
الله عز وجل وصف يوسف بالإحسان قبل هذا الموضع في الآية٢٢ " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين" كذلك وصفه بالإحسان عند تمكينه من الحكم "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " ٥٦ يوسف
وفي الآية رقم٩٠ كذلك وصفه بالإحسان ثم إن إخوته أنفسهم وصفوه بالإحسان"قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين"٧٨ يوسف.
فهذه صفة ملازمة له مذ صغره فقد أحسن إلى أبيه صغيرا وأحسن إلى إخوته رغم حقدهم عليه حتى إنه ذهب معهم ليلعب كما كان يظن والإحسان صفة المؤمنين كما ورد في حديث عمر بن الخطاب لما أتى جبريل معلما المسلمين أمور دينهم ولما سأل النبي صلى الله عليه وسل عن الإحسان أجاب"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فانظر _يرحمك الله_ ما ظننا إن رأينا الله أثناء العبادة قطعا ستكون على أحسن ما تكون لما يصبغ اللقاء بصبغة الجلال والكمال والهيبة والوقار فإن لم نكن نراه فإنه يرانا فدرجة الإحسان يتصف بها من يراقب الله تعالى في حركاته وسكناته وهكذا كان يوسف وهكذا يجب أن نكون جميعا.
الوقفة الثالثة:
قبل تأويل الرؤيا يستغل يوسف عليه السلام الفرصة ليوصل لهم ما يريد إيصاله فهو ينتظر الفرصة ليحدثهم عن وحدانية الله _عز وجل_ وفي هذا الوقت تحديدا العيون ناظرة إليه والعقول متفتحة والقلوب متعطشة كلها تنتظر رد يوسف الذي ترك في قلوبهم وعقولهم ما يدعوهم لأخذ رأيه فيما يهمهم
لاحظ هنا أن يوسف عليه السلام يمهد الأرض التي يحب السير عليها والبناء بعد ذلك استغلال الموقف إذن ما نتعلمه في هذه الوقفة.
الوقفة الرابعة:
أسلوب يوسف عليه السلام في دعوته انظر إلى آثاره وتعلم......
التدرج المنطقي الذي اعتمده في دعوتهم للتوحيد هو أساس أي منهج دعوي وهو نفس المهج المتبع مع كل الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين....
في البداية مهد لهم ببناء جدار من الثقة في كلامه بحيث يكتسب نوعا من المصداقية ومن ثم الإقناع"قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما"هذا الجزء يعطي إيحاء أنه مختلف عن باقي الناس يختص بميزة فوقية لا يملكها البشر من تلقاء أنفسهم وقبل أن تذهب شكوكهم أي مذهب أرجع الأمر لله تعالى "ذلكما مما علمني ربي" وهذا أمر في غاية الأهمية أن يشعر المدعو أنك تتكلم بكلام الله وتتحرك وفق مراد الله أي أنك لا تملك ملكة خاصة فوق البشر لكن الانر كله من الله وإلى الله.
ثانيا:بدأ يفند ملتهم بلسان الغائب حتى لا ينفروا من كلامه إذا وجه لعبادتهم الاتهام فالداعية كلماته محسوبة تخرج بقدر وميزان حساس لا تقال جذافا دونما تقدير"إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون"وهذ تلخيص الأمر كله ملة،إيمان بالله ،إيمان باليوم الآخر .....
أساسيات العقيدة لو بدأ بها الداعية سيبني عليها بعد ذلك ما أراد ثم هي مناط الأمر كله فلو آمنوا بالله واليوم الآخر ستكون هذه ملتهم في التوحيد والتي جاء من أجلها كل الرسل قاطبة.
رابعا: ما المطلوب منهم الآن بعد أن علموا ببطلان ملتهم ؟؟ بدأ يعرفهم على الطريق الصحيح وهو اتباع نهج الأنبياء السابقين دون زيادة أو نقصان وكما أوضحنا فملة الأنبياء واحدة تخرج من مشكاة واحدة وهي الدعوة إلى وحدانية الله عز وجل" واتبعت ملة آباءي إبراهيم وإسحٰق ويعقوب ......."وذيل كلامه أن عدم الشرك والإيمان بالله نعمة تستحق الشكر وكلها وسائل تحبيب وترغيب لقبول القلوب للتوحيد.
فانظر _ يا حماك الله_إلى اختيار الكلمات والأسلوب وتدرج العبارة.....
لم ينتهِ أسلوب الدعوة بعد......
خامسا:يضفي يوسف عليه السلام كلمات محببة إلى النفوس "يا صاحبي السجن" ولا حظ دقة كلمة صاحب فقد تعرفهم في السجن فقط ولم يتعمق في علاقته بهم ثم إنهما على الكفر وهو على الإيمان لم تجمعهم أخوة أو صداقة بعد....وعلى الرغم من ذلك هو أسلوب حبيب إلى النفوس وكأن ظلم السجن جمعهم فعلام يخطئهم إذن وتوحي بالإشفاق على حالهم _سبحان الله_ ثم يسألهم؛ إعمالا لعقلهم ليأخذوا القرار بناء على قناعتهم وهذا أمر مهم للغاية أن ينبع الإيمان من عقل وقلب المدعو لا مجاملة أو حبا في الداعية "ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار"
ثم يعاجلهم بالإجابة قبل أن تسيطر جاهليتهم عليهم"ماتعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها.....
ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
انتقل هنا الحديث للمخاطب مباشرة بعد أن فند لهم الحقيقة واوضح لهم الطريق وبدأت نفوسهم في تقبل الأمر فلا داعي للمواربة هنا بعد ذلك فسر لهم رؤياهما وهي ليست محل الحديث هنا .
*إذن التدرج المنطقي، المواراة في البداية، أسلوب التحبيب والقرب، الدعوة الصريحة، والأدب في الحديث.... دروس عظيمة نتعلمها من دعوة يوسف _عليه السلام_ لغير المؤمنين فما بالنا إذا كان الكلام موجه لمسلم مؤمن أصلا؟؟ لابد من إدراك طببعة وحقيقة المدعو ثم امتلاك الأهلية لذلك وانطلق بدعوة الله_ عز وجل_ متعلما من الهدي القرآني الرباني الكريم.
اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما نجهل وتقبل منا ومنكم....