كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرًا حين سمعت سُمى طَرقًا خفيفًا على نافذتها الشرقية. نهضت بخفة، كأن الصوت كان نداءً مألوفًا، لا يفزع، بل يستدعي القلب. فتحت الستارة، فرأت ظلًّا يتحرّك خلف شجرة التين الكبيرة. لم يكن غريبًا عنها. لقد اعتاد قلبها أن يتيقّظ كلما مرّت فلسطين قرب نافذتها.
كانت سُمى في العاشرة من عمرها، لكنها تحفظ أسماء القرى التي لم ترها، وتعرف من الشقوق صوت الرصاص، وتفهم أن الرمل الذي تزرعه أمها في أصيصات الشرفة هو تمثيل رمزيّ لوطنٍ دُفن ولم يُدفن بعد.
“ماما، في أحد بالخارج.”
نهضت الأم من مرقدها. عيناها متعبتان من السهر، ويدان لا تتوقفان عن الخبز والدعاء.
“ارجعي إلى النوم يا سُمى، إنه الليل فقط… يتذكّرنا.”
لكن الليل لم يكن وحده من يتذكّرهم. فهناك على الضفة الأخرى من الحاجز، كان يوسف يركض. لم يكن قد أتمّ الخامسة عشرة، لكن ملامحه الصلبة كانت تكفي لتشي بشيء أكبر من عمره. في جيبه صورة لأمه، وفي قلبه صورة للوطن الذي أُخذ منه قبل أن يولد.
جاء الليل. وأتى الغزاة. وتهجّر الأهل.
يوسف لم ينسَ شيئًا. كان يسير بين الأزقّة يهمس بأسماء الشهداء، يلمس الجدران وكأنها تقرأ أفكاره. في هذه الليلة بالتحديد، لم يأتِ ليستذكر، بل ليسترد.
في عام 1948 كانت قرية “دير ياسين” واحدة من الأمكنة التي تغيّرت أسماؤها، وارتُكبت فيها الخيانة العظمى. لم يكن يوسف قد وُلد، لكنه وُلد من رحم تلك المذبحة. كان يحمل الجينات التي تُقاوم النسيان. وكانت “دير ياسين” لا تزال تسكنه كما تسكن الحكاية من صدّقها.
“سوف أعيدها، حتى لو متُ قبل أن أراها.”
هذا ما قاله قبل أن يغادر الحدود، يختبئ بين شجر الزيتون، ويعبر إلى الناحية التي كُتب على بواباتها: “ممنوع المرور. منطقة عسكرية.”
لم تكن هذه المرة الأولى التي يتسلّل فيها، لكنه هذه المرة لم يأتِ برسالة، أو لرؤية القبر، بل كان يحمل كيسًا صغيرًا يحتوي حفنة من تراب غزة، وورقة كتب عليها:
“هنا كانت تُسمّى فلسطين.
في الجانب الآخر من المدينة، كانت المستوطنة تنام بهدوء على وسادة الحديد والأسلاك الشائكة. صبيان يرتدون الزيّ الأخضر يتجولون بين البيوت المسروقة، وبعضهم يحمل كتاب التوراة، وآخرون يحملون بنادق الألم.
أحد الجنود الشبان كان اسمه دانيال. نشأ في حيفا الجديدة، ولم يسأل يومًا كيف أصبحت “جديدة”. تعلّم في المدرسة أن البلاد بلا شعب، وأن من دخلها دخلها بإذن الربّ، لكن قلبه لم يكن مقتنعًا. كلما نظر إلى الحوائط، سمع أسماء غير تلك التي في الكتب. وكلما عبر زقاقًا قديمًا، سمع بكاءً مكتومًا لا يشبه ضجيج الانتصار.
ذات ليلة، رأى في نومه فتاة صغيرة تحمل علمًا أبيضًا وتمشي وسط الأنقاض. قال لها: “أين أنت ذاهبة؟”
أجابت: “أبحث عن باب لم يُكسر بعد.”
قال لها: “ما اسمك؟”
فقالت: “اسأل الأرض.”
حين استيقظ، قرّر أن لا يحمل بندقيته هذا اليوم. مشى وحده في البلدة القديمة. كان الظلّ ثقيلاً، والريح تحمل رائحة حريق بعيد.
رأى طفلاً صغيرًا يحاول تسلّق جدار، اقترب منه، فهرب الطفل، لكن دانيال لمح قطعة قماش سقطت من جيبه. كانت قطعة خضراء، مكتوب عليها بخط يدوي:
“كانت تُسمّى فلسطين.”
يوسف وصل. تحت الجدار، غرس التراب الذي جاء به من غزة في فتحة صغيرة، وضع الورقة الملفوفة داخل زجاجة، دفنها بعناية، وألقى نظرة سريعة نحو السماء. لم تكن هناك نجوم. فقط ظلّ وجه أبيه الذي استشهد في الانتفاضة الثانية، وهو يقول له:
“البلاد لا تموت ما دامت تُسمّى.”
وفي اللحظة ذاتها، كانت سُمى لا تزال تنظر من النافذة، كأنها رأت ما فعله يوسف من بعيد.
قالت لأمها: “ماما، سمعت الأرض تنطق الليلة.”
قالت الأم: “وماذا قالت؟”
ردّت: “قالت: اسمي فلسطين، وسأظلّ كذلك.”
مرت أعوام، مات يوسف في عملية اجتياح، وسُمى كبرت وصارت معلّمة لغة عربية، كانت كلما كتبت “القدس” على السبورة، خطّت الكلمة بقلم أحمر، ثم همست في قلبها:
“لكي لا تصبح ماضيًا.”
أما دانيال، فقد قدّم استقالته من الجيش بعد أن سأل نفسه سؤالاً واحدًا:
“إذا كان هذا وطني حقًا… لماذا لا أطمئن فيه؟”
وصار يكتب على جدران الأزقة:
“البيوت تعرف أصحابها.”
⸻
في عام 2080، فُتحت كُبسولة زجاجية خلف جدار قديم في إحدى ضواحي القدس، وجد فيها باحث أوروبي زجاجة صغيرة بداخلها ورقة مكتوب عليها بخط مرتجف:
“هنا كانت تُسمّى فلسطين.”
ابتسم الباحث، وقال لرفيقه الذي لا يعرف العربية:
“انظر… حتى الكلمات تقاوم الاحتلال.”
ثم أعاد الورقة إلى الزجاجة، ودفنها من جديد..