"كلما غلبها التعب تغمض عينيها، على أمل أن تفتحهما فتجد أن ما يحدث مجرد كابوس وانتهى، ولكن هيهات!"
يرن هاتف سارة، يخرجها من شرودها، كان سامر يطمئن منها على حال شيرين، تنهدت سارة وهي تتطلع إلى شيرين، بحزن وألم لما أل إليه حالها، أغلقت عيناها بأسى وعادت بذاكرتها إلى الماضي…
توجه أحمد يفتح الباب ليجد أمل، كاد قلبه يسقط أسفل قدميه من شدة فرحته، بادلها الابتسامة ولم ينبس ببنت شفة، ظل أحمد لحظات صامتًا، وأمل أمامه تتعجب لحالته؛ فهو يقف أمامها يسد باب الشقة فلا تستطيع أن تدخل ولا هو يرحب بها؛ ارتبكت من تصرفه وحاولت تمالك نفسها مرددة: أريد التحدث إلى سارة، نسيت كتابي معها هل أستطيع الدخول؟!
انتبه أحمد من شروده وتراجع قليلًا إلى الخلف ليسمح لها بالدخول مردداً: نعم بكل تأكيد، تفضلي.
تهمّ أمل بالدخول في خجل، يغلق أحمد الباب ويتجه إليها قائلًا بنبرة طغت عليها السعادة: أمل .. أنا ..أحبك ..
تغير لونها من بياض ناصع إلى حمرة كلون الدم من شدة الخجل وتصلبت مكانها، اقترب منها أكثر وهمّ بالكلام: أمل ..أنا ..
فهربت مسرعة إلى غرفة سارة، وأسرع هو إلى غرفته؛ ظل شاردًا يفكر، لعله يخشى الرفض أو سقوط أحلامه في بئر الواقع وغرقها، يظل بغرفته مضطربًا، يجول الغرفة ذهابًا وإيابًا كأنه ينتظر نتيجة الامتحان، بل أصعب فهو ينتظر تقرير مصيره أما الحياة أو الموت!
نعم، دون أمل لا أمل لديه ولا حياة ولا أحلام فهي أحلامه التي نسجها سنوات طوال. كان يذاكر لينال أعلى الشهادات ليس هدفًا بل وسيلة للوصول لقمة قلبها لا قمة الشهادات، يجتهد ليُنهي دراسته ليعمل حتى يكون جديرًا بها وفارسًا لها يحقق لها كل ما تحلم من رفاهية، ماذا لو رفضت قلبه وردته خائبًا؟! ماذا لو آثرت الصمت ولم ترد؟! هل سيظل في ناره وعذابه هذا؟! ماذا يفعل؟ ظل ساعات على حالته حتى انتصف الليل، جفاه النوم وتبدل حاله إلى هم وحزن كأنه يحمل أطنان من اليأس فوق رأسه، الأفكار تطارده والخوف تملكه، فقرر المجازفة وأمسك الهاتف وتردد هل يتصل بها؟! ماذا لو ردت أمها؟! ثم تشجع وطلب رقم أمل، كاد أن يغلق الهاتف، لكن صوتها أتى لينقذه من غرقه وحيرته، تردد .. هل يتحدث إليها أم يغلق الهاتف؟! وماذا سيقول لها؟! استجمع ما تبقى من قوة وتحدث إليها: أنا أحمد، سألتك سؤال ولم تردي عليّ، أريد الإجابة الآن!
- أي سؤال؟! لم تسألني، أنت أخبرتني.
- وهذه الكلمة هل لها رد؟! هل تبادليني نفس الشعور، هل تحبيني يا أمل؟! أنا أحبك وأريدك زوجة لي!
صمتت برهة وارتبكت وكادت سماعة الهاتف أن تسقط من يدها، شعور متناقض تملكها فرحة عارمة لسماعها الكلمة التي انتظرتها منه طويلًا، قالها مرتين في يوم واحد، وخوف شديد من فراق حتمي ينتظرهما فلا يحق لهما هذا الحب ولن يكون نهايته سعيدة لن يجتمعا كأي عاشقين فحبهما كُتب عليه الموت قبل ولادته.
انتبهت من شرودها على صوت أحمد وهو يكرر كلامه: أنتظر ردكِ، أمل هل تسمعيني؟
- نعم أسمعك، لكنني خائفة!
- خائفة مني أنا؟!
- لا، بل من قدرنا، أنت تعلم مصير تلك المشاعر، ليس هناك أمل!
- كيف؟! وأنتِ أملي وأمنيتي وحلم عمري، الأمل في الله دومًا، وافقي أنتِ وأتركِ لي الباقي، ابلغيني أنكِ تبادليني نفس الشعور، وأعدكِ سأحارب العالم من أجلكِ، صدقيني وقولي أحبك ليطمئن قلبي.
بعض الكلمات لا تُقال وبعض المشاعر لا تُوصف بل تُحس، صمتت قليلًا ثم أكملت: إذا سنحارب معًا!
كانت فرحة أحمد كبيرة عند سماعه كلامها؛ تنهد بارتياحية شديدة وغرق معها في بحر عميق وتمنى لو أن هذه اللحظة تطول، تمنى لو توقف الكون هنا وتركهما معًا، لكن جاء صوت أمها من بعيد فأغلقت الهاتف.
وتركته يسبح في بحر أحلامه، مد جسده فوق السرير، وجعل ذراعيه وسادة وضع رأسه عليها وشرد من جديد في حب عمره وأمل حياته، ظل هكذا حتى تنفس الصبح واستيقظت سارة؛ فأسرع أحمد إليها وحكى لها ما حدث، واحتضنها وظل يدور بها في الغرفة بفرح، اندهشت سارة لتصرفه وجرأته، وفرحت لأخيها الذي تراه يكاد يمسك السماء بيده من سعادته، لكنها تعلم صعوبة الأمر والحرب التي ستبدأ عندما يتقدم لها رسميًا.
تساقطت دموع سارة وهي تتذكر أخيها الوحيد (رحمه الله).
هنا فتحت شيرين عينيها، لتجد سارة أمامها بينما هي ممددة على سرير بالمشفى، لا تتذكر ما حدث، تحاول سارة أن تشرح لها ما حدث، تبكي شيرين بشدة عندما تتذكر عذابها مع سامر وموت والديها دون أن تودعهما، تمسك سارة يدها وتحاول تهدئتها، لكن تتعالى صراختها.
بينما وصل سامر إلى بيت ربيعة في غضب شديد يدفع الباب، ويدخل مندفعا نحوها: ماذا فعلتِ أيتها الحقيرة! ألم أحذركِ من قبل إلا شيرين! سمعتِ!
تتعالى ضحكات ربيعة وقهقهتها الشريرة وهي تنظر في عين سامر: هل نسيت مع من تتحدث، تهددني أنا؟! يا لك من أحمق! استطيع أن أنسفك وإياها بإشارة مني يا حقير! لا تنسَ نفسك مرة أخرى.
تقترب منه أكثر وعينها تشتعل نارًا، مهددة بقتلها لو تكرر عصيانه لأوامرها مرة أخرى، يستمع سامر لكلامها ويُلجم لسانه ويكظم غضبه منها ولا يتذكر إلا عمله، يقوم لينفذ أوامر ربيعة بلا عقل وكأنه تحول إلى إنسان آلي بلا قلب، يتحرك وينفذ الأوامر دون جدال.
تدخل الأم تبكي ومعها ابنها الذي تجاوز العقد الثاني من عمره، تجره كأنما تجر نعجتها، الواضح أنه معاق ذهنيًا لكن كلام أمه ينفي هذا، مرددة ببكاء شديد: ابني كان يبلغ من العقل ما يفوق عمره، متفوق في دراسته، كان من أوائل الثانوية العامة، دخل كلية الطب التي حلم بها، وأظهر تميزه في عامه الأول، فجأة أصابته العين والحسد، كره كليته وحياته، حبس نفسه في غرفته لا يخرج منها، لم أترك شيخًا ولا شيخة إلا وذهبت إليه من أجله، والآن لا يتكلم ولا يفقه شيئًا، فقد عقله تمامًا، صراخ وتكسير في كل شيء ولا ينام بالأيام. يزداد بكاء السيدة، ومن حولها يواسونها، تربت إحداهن على كتفها مرددة: لولا السيّدة ربيعة ما برأ جسدي من علّته بعدما فقدتّ الأمل في شفائه!
ثمّ تبعها صوت أخر قائلًا: لولاها لمَا انفكّ السّحر عن ابنتي ولما تزوّجت بعد أن وصلت أعتاب الأربعين وفقدتّ الأمل في أن أراها عروسًا!
توالت الأصوات بعد ذلك، تعقب بعضها البعض والكلّ يستحضر إنجازات عصا السيدة ربيعة التّي فاقت عصا موسى إعجازًا.
اطمأنت السيدة وجذبت ابنها ودخلت الغرفة مستبشرة، جلست أمام ربيعة قائلة: أنتِ الأمل الوحيد لنا، سمعت عنكِ من الناس وعن كراماتكِ وتفوقك في فك السحر وشفاء حالات صعبة علي يديكِ، أرجوكِ ساعديني ليعود ابني كما كان.
اعتدلت ربيعة في مجلسها مفتخرة بما تسمع من السيدة، ووعدتها بأن يكون شفاء ابنها عاجلًا على يديها، وكعادتها تغمض عينيها وتردد كلمات غير مفهومة مصحوبة بتصاعد دخان البخور وإطفاء الأنوار، تلك الأجواء التي تشعر الزبائن بجلالتها وقدرتها ورهبتها وتصور لهم حضور الجان بل ويستمعون لهم بأصوات مختلفة، تعلن عن اسم الساحر ومكان السحر وتصف حالة الابن وعلاجه.
تخرج الأم وهى تدعو لربيعة وتقبل يدها وتعدها بالحضور مرة أخرى ومعها كل ما طلبت إضافة إلى المال المطلوب والتي توهمهم أنه يُخرج كهدايا وعطايا لأولياء الله والفقراء والمحتاجين.
يرن هاتف سامر ليجد سارة تخبره أن يحضر فورًا إلى المشفى؛ يترك كل شيء ويسرع إلى شيرين.