وبما أن الحقائق لا يُستدل عليها إلا بالبراهين والحجج، وبما أن الاستناد على قواعد سليمة في تحليلها يعتبر "اللبنة الأساسية "في إثبات سلامة مبدأها، وإن وجدت وجهات نظر تؤيد و تُدعم وجودها فهذا في حد ذاته أكبر داعم لأساس طرحها، لكونها هي... "الحقيقةلمؤكدة"، فقد عُرفت الحقيقة بأنها وصف للفكرة، والفكرة هي التي تخطر في الذهن الذي هو يقوم بدوره في إنماءها على حسب توجهاته..لتنبت في النهاية فكرة تتصف بحقيقية أو غير حقيقية..
هي بالطبع صعبة المنال..ولن يظفر بها إلا كل من أزاح ما يعوق طريق وصولها ولا يخشى العاقبة .
ومن السهل أن نضع أيدينا عليها.. هذا في حالة أن نكون ملمين بكل جوانبها.. وإلا فلا كان يتطلب من أمي مثلا حين تنصحني و تقول لي: "كوني مع ربنا ديمًا نيتك صافية من جوا وشوفي إن ما كان ينصفك!!" فهل كانت أمي على دراية بأن تلك الجزئية التي توصني بصفاءها دومًا هي كناية عن الحقيقة تلك، أم ربما كانت كلمة محض صدفة ؟!!
وهل كانت تعلم أن هذه الكلمات البسيطة تحمل في مغزاها رأيًا مؤيدًا لمفهوم الحقيقة عند الفيلسوف وليام جيمس؟!
الذي قال : " ان النتائج او الأثار التي تنتهي اليها الفكرة هي الدليل على صدقها" . كما يضيف " ان كل ما يؤدي الى النجاح فهو
حقيقي"
وتطرقت امثلة كثيرة لأراء فلاسفة عظماء..لامست في تصوراتهم صورة حية لمفهومها، فوجدتها عند سقراط: أن الحقيقة تنبثق من اكتشاف المعاني الحقيقية للمفاهيم والأفكار الأساسية في هذا العالم مثل الخير والشر والإستقامة والتقوى.
وعند دكارت.. موضوعية بمعنى أنه يمكن للعقل البشري على إدراكها وتوظيفها.
أما الحقيقة عند "نيتشة الفيلسوف الألماني "في الفلسفة المعاصرة، اعتبر نيتشة ان ما في هذا العالم إلا تفسيرات، ووجهات نظر منبثقة من إرادة الإنسان الطامحة، لنيل القوة والقدرة على تحقيقها.
فما دامت الفكرة الحقيقية هي المرادفة للواقع..وما دام الواقع هو
الحقيقة المؤكدة إذًا فكرة + واقع =حقيقة مؤكدة !!!
وما أدراك بهذا الواقع وهو يعج بالألم والاستبداد بين ساحات المحاكم..؟!! من محاكم الأسرة، ومحاكم الإستئناف، والنقض وغيرها .. واقعًا نعاني ضالته جراء ما يحدث من بترٍ للحقيقة لكل من تفوه بها ..حينها سيكون هو من قرر أن يكون له ولشهادته ما لهما من قرار !!
فلا املك إلا ان أقول-نحن من زرعنا الشوك حولها بأيدينا- متمنيين ولا نملك إلا حق التمني فقط..لا الإصرار على المبدأ، ولا الوقوف في وجه الظلم والظلمة... نطالب بها مختبئين في كهوف الظلام، ونحاول أن نجد لها مخرجًا في دمعة تراق أو آهة تعلو ليحسوا أننا بشر وإن من أبسط حقوقنا أن نحزن أو أن ندمع ومن حقنا نقول ولو مع انفسنا آه !!
وبينما كنت في ساحة من تلك الساحات أرنو لذاك الميزان العالق في يد تمثال العدالة.. ولسان حالي يسأل هل ثمة حقيقيون هنا؟ هل ثمة حقيقيون هنا؟!
فوجدت الصمت يخيم المكان، وكأن لا حاجة لنا بهذا السؤال، فالجميع هنا يعتلي عرش مجدها، ويُقدسون عقيدة الضمير، ويحققون شريعة الحقيقة بكل حذافيرها..بلا استيفاء لبيانات دون فائدة، ولا عرض لمعلومات بلا جدوى.،!!!!
وبين هذا او ذاك نحن نتلهف عليها لهفة الظمآى وهي في قبضة يد الظالم.. ننادي بأعلى صوت لتحقيق "ميزان العدل " فنطمئن أن قد حُققت غايتها دون خلل أو نقصان في صحتها من قِبل كل الساعين ورائها، أما إذا اقتضت حكمته وأصبحنا نحن المطالبين بفك اغلالها، أو سنحت الفرصة واصبح لنا مطلق الحرية في حجبها أو جهرها، حينها سنكون حرصين كل الحرص..حدا الإقصاء بعدم الفصح بها، تحسبًا لأي ضرر ممكن أن يلحق بنا، واتقاء مخاوف لايُحمد عقباها بعد نفاذها..فأنى يُستجاب لنا بعد كل هذا إذ لم نكن نحن أهل لها؟!!
قد لا نملك احيانا المتنفس الطبيعي الذي يخرج الحقيقة من دوامة تشويش الحقائق التي تجوب بضمائرنا ..مما يحجب رؤيتها، وبالتالي لن تجد مخرجًا تنفذ منه لتنتهي تلك الصراعات الداخلية، لكن الحل الوحيد والأمثل أن نؤمن أن من يستحق أن يعيش حرًا مرفوع الرأس هو من بات سليم النية، رصيد إيمانه مع الله كاف.. بأن يذكره دائمًا بإنسانيته التي تستحق منه أن يمضي قدمًا دون ان يلتفت يمينًا أو يسارًا ..المهم ان يمتلك ذمام حريته بيده..حريصًا عليها كل الحرص.. كي لا يترك فرصة واحدة يتلاعب بها أحد ضده..وهنا ستتغير النظرة للنفس بشكل خاص، وللحياة بشكل عام..لأنك حينها ستصبح غير عاجز عن أن تبطل لجاجة تزييف الحقائق وقادر أيضًا على تلجيم أفواه الكاذبين .
يقول العقاد ردًا على خطاب أحدهم الذي أشار فيه ببعض الكلمات مما جعل العقاد يستشف أنه قد صدق ما قيل في حقه بل وإدعاءً عليه بإحدى الندوات ..حيث قال:"إن الحديث المشار إليه لم يكن حديثًا بمعنى
الحديث المصطلح عليه في الصحف، ولكنه كان تلخيصًا بقلم كاتبه
لما سمعه في ندوة..وقد فهمه كما أراد عن حسن نية-على ما أظن-
ولم يفهم بعضه الأخر عن حسن نية ولا سوء نية، كما هو واضح من الكلام الذي أسنده إلينا وهو مستحيل."