البنت كانت لسه ممددة راسها على رجل "قاهرة" ومندمجة في قصصها ومغمضة عنيها..قالتها:
-إحكيلي حكاية تانية..
=لما نتقابل تاني ..ماحنا هنتقابل
-معلش حكاية واحدة بس
=طيب، هحيلك حكاية صغيرة بس في الحقيقة هي كبيرة أوي، عن الحب في زمن المرض، الحب في زمن حصاد الشباب! انا مميلتش ولا حبيت حد من بعد جوزي، الراجل اللي كان عايز يخلص مني عشان كان فاكر إني عملت معاهدة مع الشيطان! كنت بخاف من الحب، أني اتعلق بوهم وقصة مكتوب عليها الفشل من قبل ما تبتدي، إزاي هحب واحد هيشيخ ويموت وملحقوش، أفضل أنا قاعده وأعد الساعات والسنين ومروحلوش، مكنش ينفع، حطيت مكان قلبي حجر، لحد ما قابلته، "منير" ابن دمياط ، أبريل 1883، قاومت كتير، كنت بعامله بمنتهى الجفا وهو مكانش يرده غير بالحسنى والحنية، مقدرتش ، في يوم صحيت لقيت نفسي بهواه، روحي متعلقة بروحه ، بس بقيت مرعوبة ، مقلتلوش أني بحبه، عرض عليا الجواز وانا مردتش، اتجوزه ازاي بس! لحد ما جت الكوليرا اخدته، في نفس السنة اخدته، شهور عدوا كإنهم عمر كامل، من كم المشاعر الي فيهم، مكنتش متخيلة إني هحب حد قد جوزي "عبد المعبود " لكن الحقيقة اللي إنتي الوحيدة اللي هتعرفيها هي إني حبيت "منير" أكتر، وأهو جه يوليو واخد "منير"، مش "منير" بس، أخد كتير، حصد شباب وعجايز وعيال، وأنا لأ...
..................................
الاتنين اتقابلوا على مدار شهور بعد كده، لحد يوم معين البنت لاحظت فيه إن "قاهرة" مختلفة، وشها مضلم وشايلة الهم، سألتها مالها، اتهربت....كالعادة البنت مددت على الزرع وراسها على حجر "قاهرة"، كانت ضحكتها مشرقة زي ما "قاهرة" متعودة، حاولت تلطف الجو، فضلت تحكي عن كل حاجة حصلت معاها من آخر مرة اتقابلوا، لكن مفيش فايدة...في الآخر "قاهرة" بصت للبنت وقالت:
=جه الوقت.
-وقت إيه؟
=إنتي عارفة.
-لسه شوية.
=لأ، خلاص، مش هينفع أفضل أكتر من كده، أنا لازم أمشي، وإلا الناس هتبدأ تلاحظ.
-هتسيبيني؟
عين "قاهرة" لمعت بالدموع، رفعت راسها بتراقب الشمس، المفروض إن الوقت متعداش الضهر لكنه كان باين كإنه الغروب، الشمس زي ما تكون هتغيب بلونها الباهت، غمضت وقالت بنبرة مهزوزة:
=هرجعلك.
-متأكدة؟
=أوعدك، هرجعلك.
-طب خلينا شوية كمان، خلينا كتير النهارده.
=ماشي وماله؟ بس مش خايفة أبوكي يعاقبك؟
-علقة تفوت ولا حد يموت، وبعدين إيه يعني علقة، يوم وهيعدي كإنه لحظة أو أقل، بالنسبة مثلًا لعمرك يا "قاهرة"، مش كده؟ هعتبر نفسي إنتي، وكإني هعيش عمر "قاهرة" وبكده العلقة كإنها حبة رمل في شط واسع، خلينا مع بعض النهارده، خلينا كتير يا "قاهرة"...
.............................
-وبعدين حصل ايه؟
سألتني "جومانا"....رديت:
=خلصت، الحكاية خلصت..
-لأ ما خلصتش
ابتسمت وقلت:
=برافو، مخلصتش، مفيش حكاية بتخلص، كل العبارة إن الأشخاص بيتبدلوا، خيط القصة بيمسكه حد تاني يكمل معاه بأحداث وتفاصيل جديدة، كل الحكاية أننا بنزهق من الحكي فبنقول الحكاية خلصت!
"عبد الخالق" سأل:
-"قاهرة" فضلت عايشه؟
=مستغربين "قاهرة"؟ طب والكواكب؟!
-مالها الكواكب؟
=الكواكب بقالها قد ايه عايشة؟
"راحيل" قالت:
-كواكب ايه؟ مفيش غير الأرض اللي عايشة، قصدي يعني عليها حياة!
=طب والتوائم؟
-توائم مين؟!
=توائم الأرض، برضه معلهاش حياة؟
-هو في للأرض توائم..
=كان يا ما كان المنطق ملوش مكان ..بالذات في القصة الأخيرة دي، قصة توأم للأرض سابح بعيد عنها من سالف العصر والأوان!....
الطرابيزة كانت بتتهز كإن في زلزال، وده من أصوات المتجمعين عليها وثورتهم وتحمسهم وإستفزازهم وغضبهم...محدش توقع إن الإكتشاف هيولد كم الجدال والخناقات دي...
توأم الأرض فجر في النفوس براكين خامدة مكنتش تعرف بوجودها! العُلما وصلوا لكوكب شبه الأرض بالظبط على بعد آلاف السنين الضوئية رصده واحد من أحدث الأقمار السابحة في الفضا، الكوكب فيه الأخضر والأزرق والأصفر والأبيض، زيه زي كوكبنا، أما الجدال كان غريب، حاجة كده جانبية وابتدت بضحك وكلام لطيف وانتهت بجدال، البداية كان لما حد من المتجمعين اقترح إن رصد "الكائنات الفضائية" بقى قريب جدًا بعد ما اكتشفنا كوكب شبهنا، وده لإن الكون أوسع بكتير من إدراكنا وبما إننا أكتشفا الغريب فالأغرب لسه جي، مش مستبعد أبدًا نواجه الكائنات الفضائية قريب، بس الشاب ده لقى صوت بيعلى بتحفز وعصبية وبيقول:
=من ساعة ما جينا الدنيا واحنا بدور عليهم ونفسنا نخرج من الأرض مع إننا وبرغم البحث كل السنين دي ملقناهمش، مش شايفين ان ده ليه دلالة معينة؟
- قصدك ان مفيش كائنات تانية؟..
=لأ، اننا بندور على نفسنا!... يقين كتير مننا أن في كائنات بتنتمي لكيان غير الأرض، ده لأنه حقيقي فعلًا والكائنات دي ببساطة هي احنا! إحنا الفضائيين....
-ايه التخريف ده؟!
=مش تخريف، الإنسان هو الفضائي ..هو الزائر والضيف على الكرة الأرضية عشان كده من واحنا صغيرين دايمًا رقبتنا ملووحة للسما، زي ما نكون مشتاقين لبيتنا وموطننا الأصلي بره الكوكب.. الإنسان هو الكائن الوحيد اللي متولدش ولا اتوجد على الأرض، هو الوحيد اللي انتمى لعالم تاني وبعدين نزل على الأرض، إحنا في بحث مستمر عن نفسنا...
-أنت متأثر بالمعتقدات الدينية والروحانية ، المفروض اننا نفصل بين الموروث الديني والثقافي وحكاوي الأجداد والعلم اللي في ايدينا واللي قادرين نوصله..
=ده مش تأثر ولا كلام روحاني..الإنسان مختلف عن كل الكائنات التانية وفينا صفات مش موجودة في كل الحيوانات والكيانات
-قصدك إننا متفردين ومميزين؟
=بالظبط!
-وده حال أي كائن تاني على الأرض، في البحر بس هتلاقي ملايين الأسماك والشعب والطفيليات والرخويات وكل مجموعة مميزة ومتفرده عن غيرها، التفرد مش حاجة بيتفرد بيها الإنسان! التميز مش ميزة حقيقية، كل كائن مميز عن غيره!
=تنكر انك جالك لحظات استغربت فيها جدًا شكل إنسان تاني وحسيت لوهله أنه كائن غريب، أشبه بالفضائي، عشان لون عين فاتح أوي أو لون بشرة أو حتى تصرفات مش معتاده وإن باقي المخلوقات تصرفاتها متوقعه وأنماط حياتها متكررة كأنها عارفه وبتألف الأرض أكتر مننا، حتى أن الإنسان من ساعة ما اتوجد وهو بيسعى يدمر ويلوث الكوكب، كأنه عايز يتخلص منه وبيدور في الأثناء دي عن بديل، حياة في المريخ أو قمر من أقمار زحل أو غيرهم، عايز يطلع بأي شكل، بيدور على موطنه الأصلي ولسه مش لاقيه....
**********
-يا تيتا!
=ايه يا عبد الخالق؟
-هم رواد الفضاء والعلما دول كانوا مصريين؟! بتحكي على أساس أنهم كانوا بيتكلموا مصري عادي واننا إحنا اللي إكتشفنا الكوكب اللي شبه الأرض وكده!
=مين قال كده؟ انا قلت إنهم مصريين؟
-امال بيتكلموا عادي زينا كده ليه؟
=ممكن يكونوا مصريين أو فرنساويين أو أمريكان أو خلايجة أو صينيين أو روسيين أو هنود ممكن يكونوا لابسين بدل أو قمصان وبناطيل أو جلاليب أو جينزات وتيشرتات، ممكن يكونوا أي حد بأي جنسية وأي شكل، المهم اللي في راسهم.
نقرت بصباعي على راسه وكملت:
-أدمغة البشر شبه بعض بشكل مذهل، إحنا عبارة عن أنماط مكررة، تفكيرنا، خواطرنا وحتى الأحداث اللي بتمر بينا، يعني مثلا واحد إخترع الموبايل وفاكر أنه جاتله فكرة مجتش لحد قبله أو في أي مكان تاني، ميعرفش أن في ملايين غيره في أماكن وأزمنة مختلفة جتلهم نفس الفكرة وافتكروا برضه أنهم لوحدهم اللي فكروا فيها، بس واحد بس اللي نفذها وممكن كمان تكون اتنفذت قبل كده في زمان بعيد أوي ورجعت تاني في شكل ومضة في دماغ صاحبنا عشان يحييها من جديد، أي حد ممكن يوصل لتوأم الأرض، المهم القصة يا عبد الخالق...
**********
إتسعت إبتسامة صاحب نظرية قرب اكتشاف الفضائيين في خبث ورد على صاحبنا اللي شايف إننا إحنا الفضائيين وقال:
-برضه بتتكلم ف فلسفة وكلام مش ملموس، "حسيت إن إنسان تاني شكله غريب وأنه كائن مش من الأرض، تصرفات الحيوانات وتعودهم وحبهم وتعايشهم مع الأرض، سعينا ندور على موطن بديل كأننا زهقنا من الكوكب ده وعايزين نرجع لموطننا الأصلي" كله إرتجال وفلسفة وروحانيات وأحاسيس، فين الأدلة، فين العلم المادي؟؟!
=الدليل هو العلم اللي مش عندنا زي أدلة لحاجات كتير، علمنا ناقص!
-انت عايز توصل لإيه بالظبط؟
=إننا لو خرجنا، لو هبطنا على توأم الأرض هنلاقي نفسنا!
الأصوات عليت والقاعة ضجت بالضحك والزعيق...الشاب ده بجد مخبول وتفكيره غريب، إزاي انضم ليهم؟ إزاي قدر يوصل لطرابيزة الصفوة، العقول اللي وصلت لتوأم الأرض؟ إزاي شريكهم يكون بالأفكار العجيبة دي؟
-يعني قصدك إننا هناك؟ انا وانت والحاضرين وكل البشر على الكرة الأرضية ، إننا مثلًا عايشين هناك وهنا؟ ده الوهم ولا هنلاقي توأم لكل واحد فينا هناك؟!
=مش توائم، مش بالضرورة ، بس هنلاقي بشر برشه، هناك الأرض وهنا الأرض، أشباهنا....
...................................
آمال الفريق كله، الفريق إيه، سكان الأرض كلهم، كانت على المركبة الفضائية، اللي إسمها "عبور"، واللي اختاروها عشان تنطلق ل"توأم الأرض" وبعدها المفروض كانت هتطلع مركبة تانية. نقدر نقول إن "عبور" كانت زي مركبة إستكشافية كده، بس من الآخر دي كانت كبش الفدا عشان لما توصل تستكشف الكوكب ده من جوه وتشوفه مناسب لوجود بشر ولا لأ وبعدين تدي إشارة للناس على الأرض لو طلعت فعلًا زي ما الفريق توقع، زي ما هي شبه كوكب الأرض بالظبط من بره شبهه من جوه، بالغلاف الجوي والضغط وكل حاجة....
في النهاية محدش بجد كان متأكد من اللي جوه "توأم الأرض"، مناخه، المنحدرات، البحور، كل اللي عرفوه إن الغلاف الجوي من بره متطابق مع غلاف الأرض، فيه النيتروجين والأكسجين والهيليوم والهيدروجين، بس ده مش كفاية، لازم حد يهبط بنفسه في الجوف، جوه توأم الأرض، ومينفعش تبقى آلة مهما كانت متطورة، لازم بشر بدماغه وأحاسيسه وقدرته على التعبير، مش يمكن ميطلعش توأمنا زي ما كانوا متخيلين؟ ويمكن فيه أسرار مرعبة تخلينا نديله ضهرنا ومنلفتش ليه تاني، ونسبح بقى في باقي الفضا الفسيح وندور من تاني على حاجة إحنا منعرفهاش، حاجة ناقصانا عشان أرضنا مش مكفيانا!
أما "عبور" فتعتبر كانت مركبة بسيطة في تكوينها وتشغيلها، ومفيهاش غير كرسيين لشخصين وبس، الوكالة الفضائية اختارتهم عن طريق قرعة.
"راحيل" قاطعتني وقالت:
-القصة حلوة، حلوة أوي يا تيتا "سكينة" بس تخوف ف نفس الوقت!
=ايه اللي فيها يخوف يا "راحيل"؟
-فكرة إن في كوكب شبهنا بالظبط، وكل السنين دي منعرفش عنه أي حاجة من ساعة ما الإنسان اتخلق، ايه الحكمة من وجوده؟ وإزاي الكون مش بينتهي كده لدرجة أنه يطلع مخبي كوكب توأم للأرض؟
ابتسمت، عيني وسعت من الإنبهار بيها، من سؤالها وإسلوبها...
=أنا عملت فرق جامد أوي معاكم في الأيام القليلة دي!
"راحيل" كمان ابتسمت لما فهمت كلامي، خيالهم اتسع، ظهرتلهم أبواب مكنوش يعرفوا بوجودها، عقلهم اتفتح أضعاف قبل كده، كإنهم اتبدلوا، ياما نفسي يفضلوا على كده لما يكبروا والأبواب متتقفلش تاني لما يمشوا من هنا، الولاد اخدوا لمحة من الكون الأوسع، الدنيا اللي أكبر من دنيانا، السما اللي شايلة سحب والكوكب اللي شايل السما والمجرة اللي شايلة الكوكب اللي جواه كتل بديعة اسمها السحب والنقط الصغيرة اللي نظرها اتعلق بالسحب واللي لو قربنا منهم هنكتشف إنهم البشر، بالذات الصغيرين منهم اللي اختاروا الإندماج في الدنيا الأوسع قبل ما يكبروا ويتشغلوا بالهموم والدنيا الأصغر...
"جوهر" قالت:
- خسارة انك قاعدة لوحدك يا تيته ومش بتلاقي حد تحكيله القصص دي.
= ومين قالِ لك أني عايشه لوحدي؟....
سألتني:
-هو في ح....
قاطعتها:
=مش عايزين تعرفوا القرعه حصلت إزاي؟
-إزاي؟..
=ال30 واحد المشتركين في المهمة قعدوا في أوضة الاجتماعات عشان يشوفوا إزاي هيختاروا الشخصين اللي هيطلعوا لتوأم الأرض، القائد افتتح الاجتماع بكلمة كده عن إنه واثق في كل الفريق بتاعه وكلهم مؤهلين يكونوا أول حد يركب "عبور" عشان كده القرار مرهق وصعب جدًا، وقال إ المهمة فيها مجازفات كبيرة وبتتطلب شجاعة استثنائية وبكده في آخر كلمته اقترح يعملوا قرعة عشان يختاروا الإسمين، أهي طريقة بدائية بس برضه مسلية يكسروا بيها المشقة اللي بيعانوا منها في شغلتهم دي وتعب الأعصاب....طلع علبة كان محضرها من تحت الطرابيزة فيها شوية أعواد خشب، العلبة مكنتش شفافة عشان كده الأسماء مش باينة، وهو جي يرج العلبة "أركان" وقفه وقال:
-وحضرتك اتأكدت منين إن كلنا عايزين نطلع الرحلة دي، في النهاية دي تعتبر مهمة "إنتحارية"..
"أزهر" رد عليه باستهزاء:
=ليه؟ خايف تقابل الكائنات الفضائية؟
-وانت مش خايف تقابل "البشر أشباهنا"؟!
ما هم دول كانوا أصحاب الخلاف إياه، "أركان" اللي شايف إننا على وشك نكتشف وجود كائنات فضائية و"أزهر" اللي شايف إن الفضائيين هم إحنا وإننا بعد ما ندور هنلاقينا بنواجه نفسنا، أهو ده اللي الكل شايف عقله خفيف وخياله واسع... الموضوع مكنش بس اختلاف في وجهات النظر، الاتنين كانوا من جواهم بيكرهوا بعض، كل واحد اتمسك بفكره واعتبر الفكر التاني معادي ليه وكان في ما بينهم توتر كده من البداية من قبل ما يتكلموا حتى مع بعض، سبحان الله، الإنسان بيبقى حساس جدًا، جواه زي بوصلة بتعرفه الحاجات اللي مش بتتشاف بالعين ولا ليها حس مادي، زي مين اللي متوافق معاه ومين لأ، مين اللي شايل شر ومين شايل خير، مين غدار ومين يأمنله، إحنا بس اللي بنتجاهل البوصلة دي ومش بنصدقها وبنردم عليها.
****************
-تفتكروا ده وقته؟!
عين القائد وسعت وفضل مبرق فيهم في غضب، وبعدها رج العلبة...
خرج أول عود، بص للإسم واترسمت على وشه ابتسامة خبيثة وبص ل"أزهر" وقال:
-إبسط يا عم كمان أسبوعين هتقابل مرايتك!
برغم إن "أزهر" كان قبل كده متحمس ونفسه في فرصة زي دي عشان يثبت نظريته اللي كان متأكد من صحتها، بس ارتجف، خاف...للحظة أدرك إنه هيهبط على "توأم الأرض"، ده واقع خلاص، مبقاش مجرد افتراض، هيعمل إيه؟ هل هو فعلًا مستعد؟ مستعد للقاء أي حاجة، الموت مثلًا أو الأكتر من ده....المجهول؟ مستعد يكون أول واحد يوصل كوكب جديد، غامض ومرعب؟ محدش يعرف إيه اللي جواه، وإيه اللي بيمشي على أرضه....
الرجة التانية...العيون كلها كانت متجمعة على القائد، مسك العود وفضل باصص فيه، طول في السكوت، وبعدين بصلهم، نقل نظراته ما بينهم لحد ما عينه ثبتت على "أركان"!
اتحسم الأمر، "أزهر" و"أركان" هيطلعوا على المركبة الاستكشافية المتوجهة لتوأم الأرض...
اللي مكنش يعرفه الاتنين بقى، هو إن مكنش في قرعة! الأعواد مكنش عليهم أسماء، والقائد هو الي قرر يحطهم مع بعض من باب التسلية وأنه يعمل جو مثير كده في التجربة عشان الخلاف الكبير ما بينهم، زي اللي بيرمي زيت على النار، ده هيبقى عرض هايل!
"أزهر" راح على أوضة فاضية، نزل على الأرض وقعد على ركبه، كان بيقول في نفسه
"مش كفاية أني طالع المهمة الإنتحارية كمان هيبقى معايا المخبول ده، مهووس الفضائيين!"
دقات قلبه كانت عاملة زي الطبول اللي بتعلن عن حدث كبير جي...
أما "أركان" فبعد ما المجلس انفض، فضل قاعد لوحده على طرابيزة الاجتماعات وكان كلامه لنفسه "أهو أزهر ده كفيل أنه يخليني أفقد عقلي قبل حتى ما أوصل على سطح الكوكب، هقضي معاه أسبوعين بحالهم لحد ما نوصل وأسبوعين كمان قبل ما ييجي الوفد التاني، هتصرف إزاي؟
"10..9..8..7..6..5..4..3..2..1"
المركبة انطلقت، اخترقت السما للفضا بره الأرض، سابت وراها صوت عالي يرجف القلوب وشعلة نار عظيمة ودخان خلى السحب تستخبى عن الأنظار...محدش فيهم اتكلم مع التاني، عملوا كإنهم مشغولين بالاتصالات مع مركز العمليات والزملا والقائد، بيبلغوهم أول بأول بحالة المركبة وسلامة الرحلة وأي ملاحظات...
"أزهر" اتفاجأ إن "أركان" مقربش منه ولا حاول يستفزه و"أركان" كمان اتفاجأ بهدوء "أزهر"، الاتنين كانوا بيتجنبوا بعض طول الإسبوعين، كإنهم بقوا اشخاص تانيين، عندهم نفس القناعات لكن الطباع اختلفت، زي ما يكونوا أدركوا إن الطريق الوحيد للنجاة هو في إنهم ميتعرضوش لبعض، يمكن الأرض زحمة بالبشر، لكن هناك...وسط الفضا الحالك المضلم مفيش غيرهم الاتنين وبقاء واحد منهم معناه بقاء التاني، هناك لازم الخلافات تتحط على جنب، هناك مفيش مجازفات، هناك الاتنين جزء من كيان واحد وإنهيار واحد منهم معناه إنهيار التاني...
.....................
مافضلش غير كام ساعة على الهبوط، والاتنين الرعب اتغلب عليهم، لكنهم مبينوش ده، رعبهم من اللي هيواجهوه على الأرض الجديدة... وأخيرًا "أركان" نطق:
-أنت عارف أني كان ممكن أصدقك!
=قصدك ايه؟
-أصدق أن في إحتمال ولو 1 في المليون أننا رايحين لكوكب الأرض نمرة 2 وأن هناك في بشر فاكرين إنهم البشر الوحيدين في الكون.
=وايه منعك تصدقني؟!
-سلوكك وغرورك. أنت دايمًا بتتكلم كأنك أذكى واحد في الفريق، أذكى واحد في الدنيا، بتصغر في اللي حواليك وتستفزهم من غير ما تحس.
=مكنش قصدي أكيد.
إبتسم "أركان" وقال:
-شفت بقى، منفتش أنك أذكى واحد، يعني مؤمن بده ومتمسك بيه، مش هاين عليك حتى تقول أنك مش الأحسن وأن الباقي زيك!
=هيفرق في ايه يا "أركان"؟ المهم اللي إحنا على وشك نكتشفه واللي ممكن يغير مفاهيمنا والحياة على كوكبنا للأبد، هيفرق معاك في ايه إذا كان اللي وصل للمعلومات دي مغرور ولا لأ ولا شايف نفسه أحسن حد؟
-يفرق معايا ومع ناس كتير تفكيرها هيتشل قدام النموذج بتاعك، غصب عنا مش هنستوعب ومش هيبقى عندنا إستعداد وده هيعطل أي مسيرة علمية وإستكشافية، لازم نشتغل فعلًا كفريق منبقاش أشخاص حاسين بالأسبقية والعلو عن الباقي.
"أزهر" بوقه اتلجم، ملقاش حاجة يرد بيها على "أركان"، ولأول مرة مشافهوش كعدو أو حد المفروض يحذر منه، هو ببساطة واحد عنده منطق معين وكان ممكن يغير مفاهميه لو غير من أسلوبه...
****************
-هي القصة دي كام سنة قدام؟
= مين قال لِك أن القصة في المستقبل؟! ممكن جدًا تكون حصلت في الماضي، مش احتمال يكونوا اكتشفوا الفضاء من آلاف السنين، في آثار ورسومات غريبة، بتصور مشاهد لرواد فضاء ولا فضائيين، مش متفسرة أوي، زي الرسومات في كهوف الطاسيلي،طب ليه البشر ميكونوش وصلوا للمركبات الفضائية اللي بتقطع سنين ضوئية كتير في وقت قليل...
الولاد بوقهم اتفتح على الآخر....وأنا كملت:
=أو يمكن القصة في المستقبل، 5000 سنة قدام مثلًا، حتى أن الناس دي معندهمش فكرة بحضارتنا وعصرنا، اتمحينا ومفيش أي أثر أودليل على وجودنا، فكرة مرعبة مش كده؟ يفوت جيل يكون فاكرك وحزين لفراقك، وراه جيل فاكر ليك شوية مشاهد وبيترحم عليك لما تيجي سيرتك، وراه جيل عارفك من حكاوي الكبار وعارف شوية نوادر عنك، ووراه جيل، شوية بينكروا وجودك وشوية بيأكدوا عليه، ووراه جيل معندوش فكرة عنك، إلا لو لقى شوية ورق يثبت وجودك، ووراه جيل لا يسمع سيرتك ولا يشوف أثرك، لحد ما تتنسي تمامًا، زيك زي نجم انفجر من ملايين السنين، مش مهم انجازاتك ولا عظمتك، في الآخر هتبقى ولا حاجة، ولا حتى ذكرى.....هه.. مش مهم الأحداث في الماضي ولا المستقبل، المهم القصة.
****************
سطع جسم وسط الضلمة المحيطة، فيه الأبيض والأخضر والأزرق والأصفر. وقف "أركان" و"أزهر" مذهولين من المنظر قدامهم، ده كوكبنا، مش ممكن عالشبه، كإنهم خرجوا منه عشان يهبطوا عليه، باستثناء إختلاف النسب شوية، زادت مثلًا المساحات الخضرة وقلت المساحات الزرقا عن أرضنا....
الاتنين عنيهم لمعت، نقدر نشوف جواها انعكاس الكوكب، كإنها جوهرة متألقة، "أركان" بص ل"أزهر" وقال:
-مستعد؟...............
"يتبع"