"القصة مستوحاة من أحداث حقيقية"
أنا عارفة إن المكان ده بيشد ناس كتير، خصوصًا أصحاب البال الرايق والذوق الرفيع واللي بيدوروا على حد يفضفضوا معاه، سواء بقى كلام عميق على شاكلة كيف بدأ الخلق وهتلر إنتحر ولا زيف موته وهرب وفضل عايش، أو كلام خفيف عن العيشة الصعبة ومعاناة الحياة اليومية وقلة البركة في رغيف العيش وصعوبة البحث عن شريك الحياة المثالي والذي منه. أنا بقى كنت مختلفة ، مشفتش المكان بنفس الطريقة الحالمة، بالعكس بالنسبة لي كان مقبض جدًا.. لما رجلي خطت وسط البلد قلبي إنقبض وأطرافي كانت بتترعش، كنت متوترة جدًا. شفتها مضلمة، أشعة الشمس مهما كانت قوية مش بتأثر فيها، مش بتنورها كفاية، كإن الآشعة بتتبعتر وتنكسر قبل ما توصل لأرضها، وفي كيان مرعب مش مرئي بيلتهم الضوء ومعاه البهجة والراحة. لكني طبعًا عمري ما بُحت بإحساسي ده لأي حد، مكنتش اتجرأ، مش بس عشان أنا كنت الاستثناء عن القاعدة اللي بتقول إن وسط البلد مصدر البهجة كلها وإن الناس في القاهرة بتروح لها من كل مكان، حتى لو ساكنين بعيد عنها، لكن كان في سبب تاني، وهو إني معرفش إيه مصدر إحساسي ده، ليه بيجيلي ضيق نفس وببقى على أعصابي وبمشي بسرعة عشان أخرج منها، كإن في قطر بيجري ورايا. أنا مش من هنا، مش قاهرية وكل المرات اللي زرت فيها القاهرة قبل كده كانت في أماكن تانية غير وسط البلد.
قبل ما أضطر أجي واستقر في القاهرة كنت بعشقها وسبب من أسباب ده إنها مختلفة تمامًا عن إسكندرية، استمتعت بالصخب بتاعها والحياة اللي بتدب فيها ليل نهار والمساحات الواسعة والخيارات الكتيرة للخروج وقعدة النيل في أماكن زي الزمالك والعجوزة والمعادي ، ده غير قاهرة المعز والأماكن الأثرية الساحرة، لكن طلع كلام الناس صح، اللي عايش جوه المكان غير الزاير حتى لو زياراته كتيرة، يعني لما الواحد يبقى أجنبي عن مكان ممكن يبقى مبهور بيه لكن لما يستقر ويبقى من أهله إحساسه بيختلف والإنبهار بيتطفي، حتى لو الأجنبي ده بيزور البلد الغريبة كذه مرة في السنة ومهما طالت زيارته، إحساس إنه هيرجع البلد أو المحافظة بتاعته بيخلي المكان الغريب قيم بالنسبة ليه، كل بعيد مش ملموس هو سراب جميل وحل محتمل وهمي للضيق اللي حاسس بيه ومفتاح لسعادة موجودة ف باله وبس. وجه الوقت اللي أبقى فيه من أهل المكان عشان فرصة الشغل اللي جاتلي. طبعًا كنت حاسه بوحشة وخوف كون إني هقضي الكام إسبوع الأولانيين لوحدي وبعديها خالتي المفروض كانت هتطلع على المعاش وتيجي من إسكندرية تعيش معايا لإني كنت زي بنتها وهي لا اتجوزت ولا خلفت فمكنش عندها التزامات غير الشغل بتاعها.
هو كان مجرد إحساس بالوحشة جالي أول ما نزلت من الأتوبيس عشان مدركة إني هفضل وحيدة حبة وقت، لكن مع الإحساس ده كان في إحساس تاني، تحمس، فرحة رهيبة بالتجربة اللي كنت على وشك إني أعيشها، هتنقل لأحلى محافظة ف مصر، مش هبقى غريبة أو متفرجة، ووقت ما أحب أروح الأماكن اللي عايزاها هبقى هناك في وقت مش كبير. حلم بيتحقق....
لكن الأحاسيس دي، الأحاسيس الإيجابية إختفت أول ما عديت مدخل العمارة في وسط البلد... هو أنا من وقت ما وصلت في المنطقة دي وأنا حاسة كإن في حبل بيخنقني شوية شوية إنما المرحلة الفاصلة كانت مدخل العمارة، كل حاجة حلوة جوايا راحت والحماس اتطفى.
"أنا داخلة على إيه؟" "إزاي مخدتش بالي من كآبة العمارة لما جيت المرة الأولى واتفقت مع المؤجر على تفاصيل الإيجار؟" "هل السبب مثلًا إن الاتفاق تم في الصيف فكانت الأجواء مبهجة أكتر شوية والشمس أقوى؟"
دي الأفكار اللي اتزاحمت في راسي في الكام خطوة ما بين المدخل والأسانسير. مكنش في حد عشان كده غمضت عيني وبدأت أهدي نفسي بصوت واطي:
=مفيش داعي للخوف، إنتي مش خايفة، مفيش خوف..
فتحت عيني على صوت حد بيقول لي:
-دي طريقتك لما بتخافي؟
=طريقتي؟
-إسلوبك في إنك تهدي نفسك؟
كل ده مكنتش شوفته، كنت باصة قدامي من غير ما احرك عيني.. صوت الراجل كان رخيم وهادي بس كنت حاسه ف نبرته بسخرية...
مردتش عليه. حركت راسي أخيرًا في اتجاهه، كان تقريبًا في نفس عمري، أنيق جدًا، لابس هدوم فورمال كإنه رايح أو راجع من شغله، لكن الموضوع كان مختلف بالنسبة لشعره ودقنه، مكنش مهتم بيهم بنفس القدر ، شعره منعكش ودقنه مش محلوقة..
قلت بتحدي وأنا بدخل الأسانسير معاه:
-=اه، مفيش داعي للخوف، خصوصًا إن قعدتي هتطول هنا، مينفعش أخاف.
-بالعكس الخوف والحذر مطلوبين عشان يمنعوا أسباب الخوف.
يقصد إيه؟ يعني إيه الخوف مطلوب عشان يمنع أسباب الخوف؟ وقتها مكنتش فاهمة بيقول إيه، لكن فهمت بعد كده إنه كان يقصد إن الواحد لو خاف ممكن يتفادى مصدر التهديد ودي وسيلة للنجاة. لما نبقى عارفين مثلًا إن النار بتحرق فنبعد مسافة عنها، عارفين إن السحب جامد في البحر فنعوم قريب من الشط ومنغوطش وهكذا...
مكنتش فاهمة ساعتها وحتى لو كنت فهمت كان ردي هيبقى هو هو..
رديت عليه:
=الخوف بيشل وممكن هو نفسه اللي يجيب أجل الواحد.
-إتفقنا منتفقش.
مد إيده وإبتسم وهو بيعرف عن نفسه:
-"إجلال" ، من سكان العمارة الأثريين.
=الأثريين؟
-يعني من السكان القدام أوي لدرجة نسيوا حياتهم قبل العمارة وبراها، التاريخ عندهم بيبدأ من هنا، من المدخل والأسانسير الأنتيكا اللي قدامك ده والبلاط القديم اللي فيه شقوق والشقق اللي شبه بعضها كلها.
للأسف نجح إنه يرسم إبتسامة على وشي، برغم إني كنت لسه متغاظة منه بسبب الجدال الصغير اللي دار بينا وده إستفزني أكتر...
-مش هتعرفيني بقى على نفسك؟ وإنتي مرشدة تبع البوليس ولا إيه؟ خلتيني أقول إسمي وبياناتي وإنتي مش هتقولي؟
="رهف" مش من سكان العمارة الأثريين. بس إن شاء الله أكون، مش ناوية أمشي قريب.
-عندك لكنة.
=مش للدرجة دي يعني ، أنا مش من السنغال..
-يا بورسعيدية، يا إسكندرانية.
=أنا من إسكندرية فعلًا ومن النهارده قاهرية.
-أتمنى ده ميحصلش!
الإبتسامة اختفت تاني وملامحي بقت جامدة. ليه قال كده؟ إيه قلة الذوق دي؟!
-أنا آسف مش قصدي أكون وقح.
كلامه فورمال زيه زي لبسه. وبعد ما الدم غلي في عروقي كإن في جردل ميه اترمى عليا. هديت تمامًا وده لإني اتشتت بحاجة تانية، حاجة مش مرئية ولا مسموعة، إحساس قوي.
لقيت نفسي طولت في مرحلة السرحان والسكوت، فرديت عليه:
=أنا فاهمة.
-فهمتي إيه؟
=إنك مش قصدك تكون وقح.
-وده عرفتيه إزاي؟ يعني شكلك واثقة أوي.
=هو الأسانسير ده ماله عامل زي الجمل ، إحنا هنوصل إمتى؟
كان باين عليا الضيق وإني عايزه أنهي المناقشة، لكن ده موقفوش.. كمل ولا كإن:
-أصل دي مدينة كبيرة أوي لشابة صغيرة، بنت وحيدة، هتبقي زي حبة الرملة وسط شط كبير.
-أنا مش شابة صغيرة، مش صغيرة أوي يعني، يمكن شكلي يدي إحياء بكده.
معلقش. بص الناحية التانية، سرح في الفضا قدامه وفضل ساكت لحد ما وصلنا الدور ال9، الدور بتاعه.
حرك إيده ببطء وفتحت الباب الداخلي وبنفس البطء الرهيب فتح الباب الخارجي ومشي، بس قبل ما يغيب، التفت ليا بسرعة وبعدين رجع بص قدامه وكمل لحد شقته.
**************
أنا كنت تعبانة، تعبانة جدًا من السفر ومع ذلك مقدرتش أنام. التعب كان متراكم، ممتد لأبعد من المسافة اللي قطعتها ما بين إسكندرية والقاهرة، ممتد لسنة كاملة فاتت. من وقتها وأنا مرهقة، مبنامش كتير، وحتى لو نمت لما بصحى كإني منمتش، كإني كنت فايقة تمامًا، مغفلتش ولا ثانية، نومي زي صحياني، مش فارقة كتير. يمكن ده يتغير لما خالتي توصل وتعيش معايا، يمكن صُحبتها تهون، أو يمكن بضحك على نفسي، لو كانت الصحبة هتهون كان حصل من زمان، مظنش الوضع هيتغير قريب...
كان ممكن أعمل حاجات كتير في اليوم، الساعة مكنتش وصلت 3 الضهر. كان ممكن أنزل وألف، أتمشى في الشوارع أو أروح أكل أي حاجة أو أقعد في أي كافية واخد معايا اللاب توب أو لو هقعد في البيت كنت شيكت على المطبخ والحمام وباقي الشقة وشفت إيه اللي محتاجاه، ويا أنزل أشتريه يا أكلم البواب يجيبهولي أو يديني أرقام السوبر ماركت والمحلات، أي حاجة، لكن اللي أنا عملته هو ولا حاجة. فضلت ممددة على السرير متنحة في الفراغ، بعيد المشهد اللي حصل مع "إجلال" مرة بعد مرة في راسي وبندب حظي على اللعنة المستمرة من سنة ولسه مكملة، أنا حتى مكلفتش خاطري وطلبت دليفري عشان أكل في الشقة، حتى دي كسلت أعملها.
سرحت، مدرتش بمرور الوقت وزحف الليل وأنا لسه ف مكاني...
عقارب الساعة الأنتيكا المتعلقة في الصالة فجأة صوتها علي وخرج منها صوت موسيقى. هو ده اللي حركني أخيرًا من السرير..
مشيت لحد ما وقفت قدامها وفضلت مراقباها، الساعة وصلت 12 بليل...
من طول الموسيقى حسيت كإنها هتفضل على نفس النمط طول الليل، لكن الموسيقى بطلت لما بقت 12 و دقيقة. وبدل الموسيقى بقى في صوت تاني....
دبدبة مستمرة عالية مزعجة! مفيش فاصل ما بين الخبطة والتانية...
المصدر كان باب الشقة. مكنتش واثقة إذا كان صح أعرف مين اللي بيخبط أو أستجيب ليه، بس مكنش قدامي اختيار، التخبيط كان هيطير دماغي. كان لازم أواجه المعتوه اللي ورا الباب.
الغريبة إني متفاجئتش لما فتحت الباب، جوايا كنت عارفه إن الزائر المعتوه ما هو إلا "إجلال"...
-إز...إزيك
رديت عليه بهدوء:
=الحمد لله، إزيك يا إجلال.
هز أكتافه وقال:
-كويس.
مرت لحظات من الصمت المربك المش مفهوم. "إجلال" مكنش بيبص ف عيني، راسه مدلدلة وباصص في الأرض..
أخيرًا قال:
-هو انا ممكن أقعد عندك؟
-لأ مش ممكن!
ردي كان سريع وحاسم. مسألتوش إزاي يطلب حاجة زي دي، جاتله الجرأة منين أو إيه اللي بيحصل..
رفع راسه ولأول مرة بصلي ف عيني وقال بتوتر وهو بيضحك:
-مضربتنيش بالقلم أو هزأتيني، بداية مبشرة.
=إرجع شقتك.
-هتصدقيني لو قلتلك إني مش بعاكس، وإني محتاج مبقاش لوحدي.
=ولو..
-طب مش هتسأليني ليه مش عايز أبقى لوحدي؟
=ليه؟
-أنا مبنكرش أني ببات كتير لوحدي في الشقة، كنت مضطر، عشان مكانش في حد ممكن الجأله، بس لما شفتك، حاجة فيكي، مش قادر أوصفها أو أعبر عنها... بصي، أنا بترعب من شقتي، مش عارف إزاي قدرت أصمد كل ده، الوقت كان عامل زي سن الجليد، بينخر فيا، بحس بالألم كل لحظة، أنا مرعوب يا "رهف"، أرجوكي سيبيني أدخل!
=لأ، إرجع شقتك!
-طب على الأقل، هيبقى في حد تحكيله حكايتك.
=حكايتي؟
-وشك من أول ما قابتلك عليه علامة إستفهام كبيرة، حكاية مستنية المستمع المثالي.
=وأنت المستمع المثالي؟
-اه، عشان مهما كانت حكايتك هتبقى أهون من اللي بيحصل لي، هبقى هادي ومتفهم.
=هبقى أحكيهالك على مراحل لما نتقابل في الأسانسير.
مديت دراعي بقفل الباب وأنا بقول جملتي الأخيرة. مد إيده بقوة ورجع فتح الباب وقال:
-أرجوكي خليني أقعد هنا الليلة ، مش هتحسي بيا، اقفلي على نفسك أوضتك وأنا هفضل قاعد في الصالة.
=طب وبكره لما ييجي الليل، هيحصل إيه؟
-يبقى يحلها الحلال!
الباب فضل مفتوح، أنا على الطرف وهو على الطرف التاني. مكنتش متوقعة اللي هيحصل بعد كده، رد فعلي. لقيت نفسي بقول:
-هنسيب الباب مفتوح.
سمحتله يدخل. يقضي الليلة في البيت. تعاطفي مع الرعب اللي كان فيه طغى على رعبي. حالته كانت أسوأ من حالتي بكتير.
كنت شايفة دموع محبوسة ف عنيه . رد عليا بتحمس:
-طبعًا، مفهوم، أنا متشكر، متشكر أوي.
=أنا هدخل أوضتي وأقفل على نفسي، وأنت هتقعد أو هتنام في الصالة لحد أول خيط للنور، بعديها لازم تمشي.
-دي إشارتي للخروج، أول خيط للنور.
مشيت بسرعة ومبصتش ورايا. الصالة كانت واسعة أوي، زي ما يكون ملهاش نهاية. ده نظام شقق وسط البلد في العمارات الضخمة اللي زي دي.
بنفس السرعة قفلت باب أوضتي. أنا عارفة إني المفروض مكنتش عملت كده، بس كنت خايفة وعايزه أي ونس. كلمت خالتي...
-الساعة 12 و10 يا "رهف"!
=أنا آسفة إني بكلمك متأخر كده، كنت بس عايزه أسمع صوتك.
-كدابة! وأنا مبقولكيش كده عشان أعاتبك، إنتي تتكلمي في الوقت اللي إنتي عايزاه. بس اللي يخليكي تكلميني أنا مش تكلمي أمك سبب قوي، قلق ، خوف...
=مش يمكن عشان إنتي اللي هتعيشي معايا من هنا ورايح، والمكالمات دي المفروض تبقى معاكي؟
-برضه، هتفضلي تلفي وتدوري ومش هتقولي السبب الحقيقي؟ زي كل مرة، مش هترضي تحكي..
=مش المهم إني أرتاح شوية؟
-طبعًا يا بنتي... لما تبقي مستعدة تحكي هتحكي، ومش لازم تحكيلي أنا وأكيد مش هتحكي لأمك.. هاه عايزه تعملي تمويه إزاي؟ حابه تتكلمي ف إيه؟
فضلت أتكلم معاها بالساعات. وهي استحملتني زي ما طول عمرها بتستحملني، كنت عايزه أشتت ذهني عن اللي قاعد بره الأوضة والحاجات التانية المتعلقة بيه وطبعًا البير العميق اللي جواه كتير وبتحايل عشان يفضل مقفول.
أخيرًا خالتي وقعت مني، نامت. كتر خيرها على صمودها في الساعات اللي فاتت. الساعة كانت 4 ونص ، فاضل حوالي ساعة على الشروق. قلت أجرب أنام شوية...
أول ما غمضت عيني هاجمتني مشاهد مختلفة..عربية بتلف بسرعة أوي وأنا جواها ومعايا حد. ناس بتصوت بره العربية، ناس كتير، دم في كل حته... وبعدين شفت بيت مهجور، بنات بترمي زلط في اتجاه الشبابيك المكسرة ، بتحاول تخلي الزلط يدخل جوه البيت.. قطعة من الإزاز اللي لسه صامد بتتكسر، واللي حدفت قعدت تضحك للحظات وبعدين ملامحها إنكمشت، مبقتش بتضحك. إيديها اتخشبت في وضعية الرمي كإنها لسه شايله الزلط، وعنيها مبقتش تطرف..
البنت الصغيرة قالت بصوت مهزوز:
-مش هيعدي، اللي عملناه مش هيعدي، هيبقى في رد فعل...
مش عايزه أنام، مش عايزه عيني تغفل! النوم بقى لعنة بالنسبة لي، ده لو اعتبرنا الفقرة دي نوم أصلًا.. بصيت في الموبايل، الساعة كانت 8 الصبح. وكالعادة قمت منهكة، كإني مكنتش نايمة، مجرد بتنقل ما بين الأماكن...
فتحت باب الأوضة. قبل ما أدخل الحمام عديت على الصالة، مكنش موجود وباب الشقة كان مقفول، من أقبل ما اروح وأنا عارفه إنه مشي، مشي مع أول خيط للنور.
قررت أن اليوم ده ميضعش زي اليوم اللي قبليه. حضرت ليسته بكل اللي محتاجاة ونزلت أشتري الطلبات.
المفروض أكون مبسوطة بالأيام الفاضية دي قبل ما ابدأ شغل، لكن اتمنيت لو كنت نزلت شغل علطول، مش عايزه ولا ساعة فاضية.
طولت في الشوارع عن قصد، حتى إني فكرت أفضل لحد بعد نص الليل، أقعد في مكان قريب من العمارة لحد ما الوقت يعدي، لكن رجعت ف كلامي، قلت لنفسي هفضل أهرب لحد إمتى، لازم أواجه أيًا كان اللي هيحصل...
الشمس كانت بدأت تغيب. مدخل العمارة بقى كئيب أكتر من اليوم اللي قابله، على الأقل وقت ما وصلت كان نهار.
مديت إيدي ودست على زرار الأسانسير، كنت سامعاه بيتحرك، بيطلع لفوق. رفعت راسي ولقيته جواه، "إجلال" كان طالع بالأسانسير للدور بتاعه. كان واقف على الحرف، بيبص لتحت، بيبص عليا...
كنت في حالة إنكار، بتصرف كإن مفيش حاجة هتحصل. صليت وأكلت وفتحت التليفزيون، لكن كنت بقفش نفسي ببص كل شوية على الساعة، الساعة الكبيرة المتعلقة في السقف....
9، 10، 11، 12.....
زي ما قلت، كنت عايشة حالة إنكار وإلا إيه اللي كان يخليني متثبتة على الكنبة دي بالذات، زي المسمار المتثبت ف حيطة، مروحتش أي مكان غير الصالة من ساعة ما وصلت البيت لحد ما الساعة دقت 12 بليل...
الدقات وصوت الموسيقى بالنسبة لي أبشع من الصوت اللي هييجي بعد كده...
12 ودقيقة.. دبدبة هستيرية ورا بعد من غير فواصل، الباب بيخيط كإنه هيقع....
مفتحش؟ مفتحلوش؟ مهو لازم يتعامل مع حالته وشقته المرعبة في وقت ما، مش ممكن الوضع يستمر على نفس الحال للأبد!
في النهاية مقدرتش، برضه قمت...
-أنا عارف إني قلت إن النهارده الوضع ممكن يكون مختلف...
=قلت يحلها الحلال..
-إنتي مش فاهمة، معندكيش فكرة..
=إدخل يا "إجلال".
أديته ضهري ومشيت قدامه لحد كنبه معينة وبعدين قعدت. قعد على بعد مسافة مني. خطوط العرق كانت بتجري من راسه على وشه. مكنش راضي يبصلي، مُحرج مني.
-أيًا كان اللي بيحصل يا "إجلال"، الدنيا هتبقى أحسن.
إستعديت إني أقوم. "إجلال" خد باله. قرب مني بسرعة ومسك إيدي جامد.
-إقعدي شوية، مش هأخرك.
لحد اللحظة دي كنت ماسكة نفسي، مسيطرة على أعصابي. لكن مع مسكته لإيدي أطرافي تلجت، الدم هرب مني..ومع ذلك إبتسمت له. رجعت قعدت كويس.
بدأ يتكلم بنبرة مهزوزة:
-أنا مكنتش كده
=كل حاجة هتبقى كويسة.
-مسألتنيش يعني إيه اللي خلاني كده؟
أنا اللي المرة دي هربت من عيونه، مسألتوش عشان مش عايزه اسمع إجابات.
كمل برغم إني مردتش...
-العمارة دي، في حاجات...
قاطعته:
=مش لازم نحكي اللي بنخاف منه عشان منعظمش الخوف ونحيي المخاوف.
-بس أنا لازم أحكي ولو شوية.
=مرة تانية!
قلت جملتي بحزم وكنت فاكره إن المناقشة هتنتهي على كده لكن للأسف طلعت لسه بتبتدي.
-طيب نأجل حكايتي وحكاية العمارة، قوليلي على حكايتك إنتي.
=عايز تعرف حكايتي؟
-ورانا إيه، إحكيلي.
=من..سنة، كنت ف مشوار مع بابا، هو اللي كان سايق. في لحظة كنا ماشين بالعربية عادي، الأجواء كانت هادية، كنت مركزة وبفكر كالعادة في باقي اليوم، هعمل إيه بعد ما أروح، هرتب أموري إزاي، كنت فاكراه يوم عادي زي باقي الأيام، ومين بيتوقع اليوم اللي يهد كل التوقعات والروتين ويقلب ميزان الحياة. أنا فاكره الأغنية اللي كانت شغالة على الراديو، "بتسأل يا حبيبي" بتاعة عفاف راضي، أغنية تزيد الأجواء هدوء، متنذرش أبدًا باللي جاي.. حرفيًا العالم بتاعي اتقلب في لحظة، العربية لفت حوالين نفسها كتير وبعدين إتقلبت، كنت سامعة الناس بتصرخ بره العربية ، شايفة على الأسفلت دم كتير في كذه مكان، جثث مترمية وعربيات مكسورة ومقلوبة، حادثة جماعية! العربيات أصلها كانت ماشية سريع بما إننا كنا على الكورنيش، ومعرفش اللي حصل، عربية إتعطلت أو وقفت فجأة لسبب ما. وبس، سيل من العربيات خبطت في بعض، وفي اللي انحرف عن الطريق، والنتيجة عدد من الأموات والجرحى. استوعبت كل ده، بس مستوعبتش حالتي، كنت حاسه إني كويسة، دماغي بس بتلف شوية لكن كويسة، بس مفهمتش إيه المادة اللزجة اللي تحت راسي دي، مادة منتشرة بشكل رهيب، وبابا ليه ملامحه كانت ثابتة كإنه تمثال، ليه مش بيتحرك أو بيتكلم.. صمدت لثواني قبل ما أفقد الوعي، لكن آخر لقطة شفتها كانت لواحدة ست، واقفة بره العربية بتراقبني ، ست عجوزة عينيها كلها بياض وبشرتها شاحبة وبطنها فيها عفن بينزل منها دود. اللقطة اللي بعديها كانت أوضة مستشفى. الممرضات قالولي إني كنت ف غيبوبة وإني كنت بنزف جامد وإتعملي خياطة ف راسي وكمان كان في نزيف داخلي قدروا يوقفوه، ده غير الكسور اللي ف جسمي كله. سألت عن بابا مردوش عليا. أمي وخالتي دخلوا عليا بعدها. كانوا لابسين إسود وفي آثار خيوط على وشوشهم، دموع جفت. كانوا مش مصدقين إني فقت وبقيت كويسة، قعدوا يسألوني عن حالي وإذا كنت موجوعة وكانوا بيعيدوا ويزيدوا في الكلام وأنا فضلت مركزة، في وسط كلامهم سألتهم عن بابا، سألتهم هو فين. دموعهم ردت عليا، بابا مات فورًا، قبل ما العربية تتقلب، مع أول خبطة، عزائي إنه متعذبش بإذن الله، لا عذاب جسدي ولا نفسي، مشافنيش وأنا بنزف أنهار من الدم وبفقد الوعي ومشافش الجثث والأشلاء اللي مترمية على الطريق، بعكسي أنا، أنا اللي شفتهم..
-ومين الست اللي كانت واقفة بتراقب، وعينيها كلها بياض؟
=من ساعتها حياتي إتبدلت، مبقتش نفس الشخص، كإن "رهف"، "رهف" اللي عاشت 31 سنة قبلها ماتت في الحادثة وإتخلقت "رهف" جديدة، بخواص وحياة مختلفة تمامًا، حتى متهيألي إن شكلي بقى مختلف، لما ببص في المراية مبشوفش نفس الملامح.
-أكيد اللي مريتي بيه ده مش سهل أبدًا وكل الأعراض اللي بتقولي عليها طبيعية بالنسبة للي حصل لك. إنتي فقدتي أبوكي، وحضرتي موته بنفسك وموت ناس كتير، مأساة بكل المقاييس.
=أنا لازم أقوم، هروح أنام.
-أنا آسف، إني بطلب منك كتير وبتقل عليكي، في النهاية أنا شخص غريب عنك وإنتي استقبلتيني ومستحملاني...
=مفيش مشكلة يا "إجلال".
-ممكن أقولك؟ السر هيخنقني، مفيش حد بفضفضله.
أخدت نفس طويل. يا صبر! فضلت ساكتة لثواني وبعدين قلت:
=إتفضل.
-من فترة، مش عارف قد إيه، بدأت أشوف حاجات، ضلال بتطفو على الأرض، بتتحرك من مكان لمكان ، بس كانت مجرد لقطات وبعدين الضلال أو بتختفي، واللقطات بعد كده طولت، بقت مشهد كامل، الظلال كانت سوده في البداية وبعدين إتجسمت بمرور الوقت وتكرار المشهد، إتحولت لأشكال ناس لونها إسود، مش بشرتهم اللي سوده، متفحمين، أطرافهم بتتحرك ببطء شديد، كإنه شريط سيما بطيء، بشوف بوقهم بيتفتح بصعوبة، زي ما يكونوا بيصرخوا بس الصرخات صامتة...
معلقتش، مبصتلوش حتى، فضلت أطقطق في صوابعي. هو كان شايفني متماسكة، لوح تلج، ميعرفش باللي بيدور جوايا..
-أنا عارف إنك مش مصدقاني، يعني إيه ضلال وأشكال متفحمة بتصرخ ، تصدقي لو قلت ك إنك أول واحدة أحكيلها.
=أنا داخلة أنام.
المرة دي قفلت باب الأوضة بالمفتاح، مكنتش هجازف...
الليلة اللي قببلها كنت شاكة، الليلة دي بقى اتأكدت إني مش هلاقي أي سلام. مددت على السرير وبصيت للسقف في إنتظار اللي هيحصل...
عرفت بعد كده إن "إجلال" فضل يتنقل بنظره ما بين الأركان وبيتلفت حواليه، وخوفه بيزيد شوية شوية. حاول يهدي نفسه بس مقدرش، وبعدين ظهرت دواير على الأرض وشوية ظهر أشخاص في الدواير .
حط إيده على بوقه وعينه وسعت من الذعر. فضل متجمد بيراقبهم. مش قادر يتحرك. من ضمن الأشخاص كانت واحدة ست، ماسكة سكينة بينزل منها قطرات دم، كإن الدم ملهوش نهاية، مش بيخلص....
وواحدة تانية في دايرة تانية كانت بتبص على السكينة ف ذعر، بوقها اتفتح ببطء، بتصرخ لكن الصرخات صامتة بس بعد حبه خرجت صرخات واطية جدًا، بس الصرخات دي كانت كافية ترعبه. كان في 3 دواير تانيين جواهم 3 أشخاص ثابتين زي الأصنام ، عينيهم بس اللي بتتحرك...
وفجأة، بدأوا كلهم يتحركوا بسرعة!
اتنفض من مكانه في اللقطة دي، قيود الرعب اللي كانت مثبتاه إتفكت لثواني، خلالهم جري بأقصى سرعة ناحية أوضتي....
فضل يخبط بعنف على باب الأوضة. كنت حاسه إن الباب هيقع من قوة التخبيط .
-إفتحيلي، أرجوكي، هموت، إفتحي.
قمت بسرعة. مديت إيدي على المقبض عشان افتح، بس مفتحتش. مكنش ينفع....
صريخه كان بشع، كإنه بيتدبح.
-هنا، وصلوا هنا، مش بس شقتي، دول في العمارة كلها.
=إهدى يا "إجلال".
صرخ بغضب:
-متقوليليش إهدى ، أنا مبخرفش، الحاجات دي، الكيانات موجودة، العمارة مسكونة.
=أنا مقولتش إنك بتخرف، حاول بس تهدى وتفكر.
-إفتحيلي يا "رهف" أرجوكي.
=الاتفاق كان إنك تفضل بره لحد أول خيط للنور..
-يغور الاتفاق!
قالها وهو بيزق الباب جامد، كان بيحاول يكسره. "إجلال" فقد عقله وهدوئه...
-إتفاق إيه، بقولك هموت، هيعملوا فيا حاجة..افتحيلي.
قفلت النور وجريت على السرير وغطيت نفسي لحد وشي بالفرش. كل حته ف جسمي كانت بتترعش. غمضت عيني وفضلت أقرا أذكار. كان متهيألي الليلة دي مش هتعدي لكن اللي حصل إني غمضت عيني وفتحت لقيت الليل اتبدل نهار، نور الشمس كان مخترق كل ركن في الأوضة.
نمت أو بمعنى اصح أُغمى عليا من الرعب. معرفش إيه اللي حصل، "إجلال" جراله إيه، ويا ترى إيه اللي هواجهه بعد كده...
سمعت صوت جي من الصالة. خرجت من الأوضة، مشيت ورا الصوت، المصدر كان التليفزيون. في أغنية شغالة "بتسأل يا حبيبي بحبك قد إيه". نفسها، هي الأغنية اللي كانت شغالة لما الحادثة حصلت من سنة!
مشيت لحد التليفزيون وقفلته. بعدها شفت بطرف عيني حاجة على الأرض. 6 دواير غامقين....
بعد شوية الدواير فضل تفتَح لحد ما رجعت الأرض كلها لون واحد. مكنش في أثر ل"إجلال" وباب الشقة كان مقفول.
حقيقي مكنش عندي رغبة أخرج من الشقة يومها، أعصابي مكنتش مستحملة، معرفش هواجه العالم إزاي، ولو "إجلال" موجود هواجهه إزاي، بس القعدة في البيت كانت أبشع، كل شوية كنت اتلفت، متهيألي إني بسمع أصوات، ومستنية اللي هيحصل لي. كان لازم أنزل، كان لازم أفصل عن الشقة وبعدين أرجع تاني.
واللي توقعته لقيته، وأنا راجعه شفت "إجلال"، كان سابقني، بيتمشى من المدخل لحد الأسانسير. بصيت في الأرض، مليش عين أبصله ف وشه.
برغم كده كنت قادرة أشوف، نظراته كلها كانت عتاب وشكله مبهدل جدًا. فتح باب الأسانسير عشان أدخل وهو لسه مثبت نظره عليا.
-ينفع اللي عملتيه معايا إمبارح ده؟ عادي كده؟ مش فارق معاكي اللي كنت فيه؟
= إهدى يا "إجلال".
اتعصب جامد، كنت شايفة مارد قدامي.
-متقوليليش إهدى، أهدى إزاي؟
= إهدى عشان أنت مش لوحدك.
بركان الغضب الي على وشه إتحول لعلامة استفهام كبيرة. هزيت راسي بأكد على اللي قلته.
سألته بعدها:
-أنت شفت إيه امبارح؟
الأسانسير وقف عند الدور بتاعه، مخرجش. بعديها الأسانسير اتحرك للدور بتاعي أنا. مردش عليا غير بعد ما خرجنا احنا الاتنين وبقينا واقفين قدام شقتي,
حكالي كل اللي شافه وقال إن المشهد ده اتكرر كذه مرة في شقته وإنها مبقتش فارقة، شقته من غيرها، كل العمارة مسكونة.
=بس إنت محصلكش حاجة، محدش من اللي شفتهم آذاك.
-مش كل مرة هتسلم الجرة. أنا متأكد، أنا ميت ميت، مش هيسيبوني. إنتي كان قصدك إيه لما قلتي أنت مش لوحدك؟
=أنا كمان شوفتهم!
-إمتى وفين؟؟؟!
=قبل ماجي القاهرة. شفتهم في بيتي ف اسكندرية وشفت الشقة اللي هنا.
-يعني إيه شفتيهم في اسكندرية؟ وازاي هادية كده، شفتيهم وبتحكي عادي ، إيه البرود ده؟!
هربت من عيونه تاني ورديت:
=ممكن نكمل المناقشة بعدين؟ مش قادرة أحكي دلوقتي.
-لأ بقى، أنا عايز إجابات دلوقتي.
=مينفعش يا "إجلال"، مينفعش كل شوية تدخل شقتي، أنت كده تقريبًا بقيت ساكن معايا!
-دلوقتي أحسن من نص الليل مش كده؟
=وهو يعني إنت هتسيبني نص الليل؟
مجاوبش، وأنا مكنش قدامي غير إني أدخل للشقة وهو يدخل معايا. مفيش فايده، القصة مكنتش لسه انتهت مع إني أقدر أنهيها.
سبت الباب مفتوح وقعدنا في الصالة. سألني عن اللي قلته وإزاي أعصابي باردة كده قلتله سبب الهدوء إني مش أول مرة أشوف حاجات زي دي.
الكلام تاه عنه، مبقاش عارف يقول لي إيه ، أكيد مليون سؤال كان ف باله. أنا اللي اتكلمت بعدها...
=أنا كدبت عليك، أو بمعنى أصح خبيت عنك الجزء الأكبر والأهم من حكايتي . فاكر لما قلتلك الخوف بيشل وممكن هو نفسه اللي يجيب أجل الواحد.
-ايوه.
=كان في بيت مهجور في إسكندرية، في زيزينيا، البيت ده كان مملوك من واحدة كانت عايشة في القرن ال19 إسمها "رقية"، ده مكنش بيتها الأولاني، هي اتنقلت ما بين كذه مكان، بس مش معروف جت منين ولا إيه أصلها. "رقية" يقال إنها إتجوزت وهي صغيرة جدًا، زي كل البنات في العصر ده، يمكن مكملتش ال13 سنة وحملت بعد فترة قليلة من جوازها. وف ليلة لسبب ما، كانت بره بيتها، المفروض إنها كانت حاسه بأمان كون الناس كلها في القرية أو المنطقة يعرفوا بعض كويس، عشان كده متوقعتش إن حد ممكن يقطع عليها الطريق ويحاول يعتدي عليها. هي قاومت، قاومت جامد ونجحت إنها تبعده عنها لكن للأسف وقعت واقعة موتت الجنين في بطنها. "رقية" من ساعتها بقت واحدة تانية بشهادة جوزها وأهلها، بقت قاسية وقلبها ميت والطيبة اختفت من عنيها. حملت تاني بعد فترة قليلة وخلفت بنت. فضلت ورا جوزها تقنعه يمشوا من القرية اللي كانوا فيها وييجوا على إسكندرية لحد ما وافق. أجروا بيت بسيط جدًا لإن فلوسه كانت قليلة. بنتها كانت لسه مكملتش سنة. هو لقى شغل بسرعة، اشتغل حمال. كان بيجيب فلوس كويسة، يقدروا ياكلوا ويشربوا بيها، لكن "رقية" كانت متطلعة جدًا وعندها نهم مش طبيعي للفلوس فمكانتش طبعًا راضية بشغل جوزها ومكسبه. بعد كام شهر من وصولهم إسكندرية "مجاهد" مات. "رقية" كانت منهارة عليه ومرعوبة من المستقبل عشان لا حول ليها ولا قوة ومعاها بنتها اللي لازم تأكلها وتصرف عليها. لما سألوها عن سبب موته قالت إن جاله حمة مفاجأة بليل. فضلت تبلل قماشات وتحطها على وشه وكانت فاكرة إنه هيبقى كويس مع طلوع النهار لكنها اتفاجأت أنه قاطع نفس، مات بعد كذه ساعة. أهالي المنطقة اتعاطفوا معاها، وفرولها شغل وجمعوا مبلغ كويس وإدوه ليها. مفيش بعدها بشهر بنتها كمان ماتت بنفس الأعراض. أصل الوقت ده الناس فعلًا كانت بتموت كتير ، ممكن شوية حُمى يخلصوا على الواحد، طبيعي واحدة يموتلها عدد مهول من الأطفال، والكبار كمان كانوا بيموتوا كتير وده لإن مش كل الأمراض كانت متشخصة وليها علاج. المهم إن الأهالي برضه جمعوا مبلغ محترم وسلموه ليها. بالمبالغ دي "رقية" اتنقلت زيزينيا، أجرت دور في بيت من دورين، الدور اللي فوق...وبعد ما عدة جوزها خلصت إتجوزت علطول، جوزها كان أكبر منها بييجي 20 سنة وكان معاه بنته من الجوازة السابقة. الراجل كانت تاجر مقتدر. قعد معاها هو وبنته في بيتها وده كان شرطها عشان ارتاحت للبيت والمنطقة. كان يبدو إنها سعيدة معاه لكن الفرحة مكملتش عشان بعد سنة ونص "عبد الجواد" مات.. لما الأهالي سألوها عن سبب الوفاة قالت إن في جردل معدن وقع على دماغه ومات فورًا. المرة دي الأهالي كانوا مستغربين القصة عشان "عبد الجواد" كان راجل عفي، طول بعرض ، مش مغفل ولا ضعيف، والموتة دي كانت غريبة شوية بالنسبة له. كانت مجرد شكوك بددتها تصرفات "رقية" وعلاقاتها مع الناس. "رقية" كانت شخصية جدعة بتجري على أي حد تساعده وبتحضر المناسبات كلها ، هادية ورقيقة، عشان كده الأهالي اتأكدوا إنها ملهاش علاقة بموت جوزها اللي ورثت عنه فلوس كتير، بس في حدث قلب كل الموازين وهو إن بنت جوزها "فاتن" قالت لبنت ف سنها من المنطقة إنها شافت "رقية" بتشيل الجردل المعدن وبتخبطه على راس والدها بكل قوتها ، راسه بقت زي الإسفنجة والدم مغطيها. وده كان كافي إن تحقيق يتفتح و"رقية" تُستدعى بصفتها مشتبه فيه رئيسي بناء على كلام بنت جوزها. "رقية" انهارت في العياط وقالتلهم إنها مجروحة من اتهامها، إزاي تقتل جوزها، خصوصًا إنها حامل في طفل منه، ده غير إن البنت الصغيرة نفت إنها قالت كده وقالت إن الموضوع حادثة وإن الجردل وقع لوحده على راس باباها. "رقية" تم الإفراج عنها ورجعت البيت مع البنت.
مفيش إسبوعين والبنت إختفت. لما "رقية" اتسألت عن مكانها قالت إن أهل أمها بعتوا خالتها تاخدها تعيش معاهم في بني سويف.
اتجوزت بعد ما خلفت علطول بتاجر تاني وخلفت منه بنتين وولد، كده بقى معاها ولدين وبنتين وعاشت مع جوزها الجديد 5 سنين في نفس البيت بعد ما اشترته كله مش بس الدور اللي كانت عايشة فيه، وف ظروف غامضة الزوج اختفى. لما اتسألت عن مكانه قالت إنه رجع البلد عشان حد من قرايبه اتوفى وهو هيتولى التجارة بتاعته هناك. وطبعًا هي اللي مسكت المحل بتاعه في زيزينيا وكمان طلعت ورقة تنازل من جوزها ليها تفيد بإن المحل بقى ملكها. دي كانت آخر جوازات "رقية" وبعدها بدأت مرحلة الإيجارات، بقت تأجر الشقة اللي في الدور اللي تحت لكن شروط الإيجار كانت غريبة ، مكنتش بتأجر غير لرجالة عزاب. كل راجل ييجي يقعد كام شهر بالكتير وبعدين يختفي وتقول للناس إنه قرر ينهي التأجير لسبب أو لآخر ، وكان في راجل بيساعدها في تنضيف البيت، لكن دوره كان مريب، معظم الوقت كان بيظهر معاها، مش بس في البيت، كمان في المحل وفي كل التحركات. الأمور فضلت على ما هي عليه لحد ما ف يوم الشرطة جالها بلاغ استثنائي، آخر مستأجر بلغ إنه بعد ما سكن، وف أول يوم "رقية" سألته أسئلة بالنسبة له كانت مريبة ، كانت عايزه تعرف جايب فلوسه معاه ولا سايبها في مكان ما وكانت بتسأل عن قرايبه ومعارفه والأماكن اللي عايشين فيها. هو قلق منها وقال إنه مش جايب فلوسه معاه وهيروح يجيبها تاني يوم من مكانه القديم وليلتها كانت من أصعب الليالي ف حياته. قام من عز نومه على نفس بالقرب منه وضوء خافت، لما فتح عينيه للآخر لقى "رقية" وقفه جنبه وشايلة شمعة وبتراقبه، التبريقة اللي ف عنيها وباقي ملامحها كانت مرعبة، كان حاسس إنه هدف. قام مفزوع واتحرك بعصبية. هي خافت وجريت بالشمعة بره الأوضة. مستناش الليل يفوت، خد شنطته وساب البيت وراح على القسم علطول. هي معملتش جريمة لكنه قال إنها أكيد مجرمة وأكيد كانت هتعمل فيه حاجة وإن الشرطة لازم تحط عينها عليها. بعدها بمفيش 3 أيام البيت اتحرق، اللي نجي هو المساعد بتاع "رقية" عشان كان براه، لقوا 5 جثث، أربعة بتوع أطفالها وجثة ست من غير راس. اللي أكد إنها "رقية" سنتين كانوا مرميين جنبها ودي سنان صناعية وهي كانت مركبة سنان صناعية. إنما المساعد اللي اتهموه بقتلهم عشان موضوع الراس المفصولة قال إن الجثة مفصولة الراس مش بتاعة "رقية"، دول ولادها بس هي مماتتش! والسبب إنه هددها إنه هيفضحها عشان كان بيغير عليها من كم الجوازات والرجالة المستأجرين ووعدته إنها هتتجوزه. والتهديد كان على كشف قائمة ضحاياها... "رقية" قتلت كل أجوازها وقتلت بنت جوزها اللي شافتها بتقتله وراحت قالت لبنت تانية وقتلت كل المستأجرين وسرقت فلوسهم. أجوازها اتقتلوا بسموم وواحد بالجردل المعدني والمستأجرين قتلتهم بمنشار وقطعت أجسامهم وحطتها في أكياس ودفنتهم مع المساعد في أرض فاضية على مسافة من بيت زيزينيا. الشرطة لقت كمية أطراف وجثث مدفونة في الأرض رهيبة، والقاضي مع جهات التحقيق مصدقوش إن المساعد كان مجرد بيدفن معاها الجثث، واتحكم عليه بالإعدام كشريك في الجرايم وكمان كقاتل ل"رقية" وولادها. المساعد لحد آخر لحظة كان بيأكد إن "رقية" لسه عايشة وإن الجثة بتاعة ست تانية قتلتها عشان تعرف تهرب وتعيش حياة جديدة بسجل نضيف وتبتدي تاني سلسلة جرايم وتجميع فلوس....
-وطلعت هي، هي فعلًا "رقية" اللي ماتت؟
=لأ، هو اللي كان صح، مش "رقية" اللي ماتت ولا هو شارك في القتل ولا له يد في حرق البيت وقتل الولاد.
-وده اتعرف إزاي؟
=وأنا صغيرة أنا وصحباتي كنا بنروح البيت المهجور ده، بتاع السفاحة "رقية"، بنقف قصاده ونرمي زلط على الإزاز المكسر بتاع الشبابيك. واحدة فينا كسرت جزء من الإزاز اللي كان لسه صامد وقالت إنها شافت ضل واقف ورا الإزاز بيبص بغضب عشان اللي عملناه، وقالت بصوت مهزوز:"مش هيعدي، اللي عملناه مش هيعدي، هيبقى في رد فعل"
طبعًا إحنا إفتكرناها بتهزر، طلعنا عشان نتحدى بعض، إحنا التلاتة دخلنا البيت وروحنا لنفس المكان اللي المفروض الضل وقف فيه، بدأت أعرف أن في حاجة مش مظبوطة من الأنفاس الباردة اللي كانت في ضهري، اتلفت ولقيت شبح ست عجوزة عينيها كلها بياض وبشرتها شاحبة وبطنها فيها عفن بينزل منها دود، واحدة من صحباتي فضلت ترجع وترجع لحد ما بقت على طرف الشباك المكسور، الخوف شلها، قعدت أزعق فيها عشان تتحرك، مفيش، لحد ما وقعت وماتت! والتانية جريت بنفسها ونطت وماتت!
أنا في حاجة أوحتلي أفضل مكاني، هادية ، راقبتها، شاورتلي على بطنها وورتني نفسها قبل ما تموت، على سرير المرض، ماتت سرطان المعدة . وقربت مني ووشوشتني بكل حكايتها، حتى الأجزاء اللي كانت مخفية عن الناس. وبعد ما خلصت قصتها إختفت، مكانتش ناوية تأذينا ، الخوف هو اللي أذانا، ودي بس كانت البداية، زي ما تكون بوابة إتفتحت، معرفتش أقفلها ولا بأه ليا تحكم، بقيت أشوف ناس ورا ناس، حكايات ورا حكايات، إزاي ماتوا وحاسين بإيه..
-الست دي كانت...
="رقية"، "رقية" رجعت البيت بعد ما عجزت، معرفش تأنيب ضمير أو إشتياق للذكريات، يمكن ندم على أولادها اللي قتلتهم. المهم إنها رجعت وقعدت في البيت المحروق آخر أيام عمرها وماتت بسرطان المعدة.
-بتقولي بتشوفي ناس، أموات؟
=أيوه. بس كان ده بيحصل من وقت للتاني لحد الحادثة، شفت "رقية" واقفة بتراقبني والعربية مقلوبة قبل ما أفقد الوعي وبعدها بقيت طول الوقت أشوفهم وأشوف حكاياتهم. وأنا شفت الشقة دي وشقتك من وانا ف إسكندرية.
-كلميني أكتر عن حكاية شقتي.
=مش قادرة دلوقتي يا "إجلال" أرجوك سيبني. هنكمل بعدين.
...............................
استنيته بنفسي. وقفت قدام الباب الساعة 12 بالظبط، الموسيقى انطلقت وفضلت مكملة لحد الدقيقة الأولى بعد نص الليل. فتحت الباب لقيته ف وشي.
دخل قعد كالعادة. وهو اللي بدأ الكلام:
-مش هيأذوني زي ممأذوكيش، إنتي شفتي اللي بيحصل في الشقة ومحصلكيش حاجة.
=مش بالظبط!
الدموع اتجمعت ف عيني وبصت في عينه مباشرة. سألته:
=كام شكل شفته يا "إجلال"؟
-خمسة.
=كام شكل شوقته.
-خمسة.
بعدين افتكر حاجة، دول كانوا ستة...
-إستني، في حد تاني، كان في حد تاني.
=إيه اللي حصل؟
الأشكال اللي في الدواير الستة رجعوا للحياة من تاني. الشقة اتجددت، رجعنا بالزمن لسنين كتير.
قال والمشهد بيحصل قدامنا...
-واحدة كانت بتشتغل في البيت، الأم كانت بتستأمنها وهي كانت فعلًا أمينة لحد ما عرفت واحد غالبًا هو اللي أقنعها تعمل اللي عملته، جت البيت ف يوم أجازتها وخبطت والأم فتحت، كانت فاكره أن الأم هتكون لوحدها في الشقة ،سحبت سكينة وطعنتها عشان تاخد شكمجية الدهب والمجوهرات، اتفاجأت بأصوات، أخو القتيلة وولادها الاتنين و..وجوزها، كان لازم تتصرف بسرعة، المفاجأة شلتهم، طعنتهم كلهم، الزوج كان آخر واحد فضل عايش، زحف، فاكر أنه لسه هيقدر يهرب، مشيت وراه ووطت ببطأ وطعنته وهو باصص ليها، عرف إنها من الصدمة فقدت عقلها وأن دي مش آخر حاجة هتعملها.
=عملت إيه بعدها؟
-ولعت في الشقة وفضلت جواها، صراخها خلى الناس تتفزع، مش بس سكان العمارة .
=وأنت إزاي عرفت كل ده؟
-أنا السادس، أنا الزوج!
إبتسم بمرارة وكمل:
-قولتيلي قبل كده إن كل حاجة هتبقى كويسة، عشان أنا اتأذيت خلاص، انا مت وقتها مش هموت مرتين! الحريقة، الحريقة فضلت لحد ما الناس عرفوا يطفوها، لحد أول خيط للفجر.
ابتسمت والدموع بتنزل من عنيا، بصتله بشفقة.
-كنتي عارفه من الأول؟
=شكيت، أول ما دخلت الأساسنير حسيت بأنفاس باردة، ومن رعبك اتأكدت، أنت مش خابف من عفاريت، أنت خايف من البشاعة اللي حصلت. وكل ده، كل المرات اللي لجأتلي فيها مقدرتش أواجهك، مقدرتش أفكرك، مقدرتش أخد القرار القاسي ده.
-إحنا عفاريت؟
=أنتوا شباك!
-يعني إيه؟
=شباك للي زيي، يشوف اللي حصل في الأماكن قبل كده، المكان لازم يتنفس، يحكي، يطلع اللي حصل في أركانه، المكان بيتنفس زي البشر، بيستنشق أحاسيس الناس اللي عاشت جواه وبيخرج ذكرياتهم للي بعدهم وإلا هيتخنق، هيموت.
-إحنا بس اللي شوفتيهم؟
=أنا مكنتش أعرف أمشي من الزحمة، العمارة مفيهاش مكان للأحياء....
"تمت"