ليست القصيدة ما يُقال، بل ما يتهامس به الداخل في الظلال.
وحين تتعب اللغة من المشي على إيقاع الخليل، تبدأ في الركض حافيةً على جمر الحياة، وتصبح قصيدة النثر.
قصيدة النثر لا تبحث عن تصفيق، بل عن تنهيدة تُقال بصمت، أو رعشة تمرّ في القلب دون استئذان.
هي ابنةُ الارتباك النبيل، ورفيقةُ الوحدة التي لا تُشكى.
ليست بيانًا، ولا إيقونةً للحكمة… بل ارتباك جميل، كحبٍّ بلا موعد، ودمعةٍ بلا سبب.
فيها، لا تحتاج الحروف إلى أن تتزين، بل يكفيها أن تكون صادقة.
الصورة ليست مشهدًا من الخارج، بل رعشة من الداخل.
قد تكتب فيها عن زهرة، لكن القارئ يشعر أنه يقرأك أنت.
قد تقول "غيمة" ويقرأها الآخر "حزنًا".
قد تقول "صوتها" فيراها القارئ "وطنًا".
قصيدة النثر ليست كذبةً موزونة، ولا أغنية تُعيد نفسها كل شطرين.
هي الحياة حين تكتب نفسها على الورق، بلا خوف من اللحن، بلا حرج من النشاز.
هي الممر الذي يربط الداخل بالخارج… واللغة التي لا تحتاج مترجمًا، بل قلبًا فقط.
فيها، لا يُطلب من الشاعر أن يعلو، بل أن ينزل إلى عمق شعوره،
أن يكتب لا بمداد القلم، بل بندبة الروح.
قصيدة النثر لا تشرح نفسها،
لأنها وُجدت كي تُحسّ، لا تُحلَّل.
تُكتب مرةً واحدة… وتُقرأ ألف مرة… وكل مرة بشكل مختلف.
وهنا، سؤال القصيدة الحقيقي:
هل نحن من نكتبها، أم هي من تكتبنا؟
هل نحن من نمنحها أرواحنا؟ أم أنها لحظة تتقمصنا، وتُملينا ما لا نجرؤ على قوله في وضح الحياة؟
قصيدة النثر لا تستأذن كي تولد، ولا تعتذر حين تبوح.
تأتي كما يأتي الحنين في منتصف الليل:
عارٍ من المجازات، لكن محمَّلٌ بالمعنى.
هي الشعر حين يُخلع ثوب العروض، ويبقى بلحم الحقيقة.
هي لمن لا يجد نفسه في الزحام،
لمن لا يستطيع أن يشرح آلامه في أبيات منتظمة،
لمن يريد أن يقول: "أنا موج... لا يحدّني شاطئ، ولا يسعني بيت من الشعر."
قصيدة النثر لا تصرخ، لكنها تُسمِع.
لا تُجادل، لكنها تُقنع.
لا تُقَفّى، لكنها تُطرب،
وكل قارئ يقرؤها بصوته الداخلي، وكأنها كُتبت له وحده.
ليست بديلاً عن الشعر، ولا متمردة عليه،
بل هي وجه آخر له... وجه لا يراه إلا من نظر بعين القلب.
هي الوطن لمن لم يعد له وطن،
والمأوى لمن لم يجد مأوى في اللغة،
وهي —قبل كل شيء— وطنٌ مؤقت للروح التائهة.
ختامًا...
لا تسألوا قصيدة النثر: أين وزنكِ؟
بل اسألوها: كم نبضًا فيكِ؟
لا تحاسبوها بلغة القواعد، بل قِيسوها بكم مرة جعلتكم تصمتون بعدها طويلًا...
وتفكرون.