في أعماق روحي يسكن حب متدفق لوطنين،
حب لا ينقسم ولا يُقسَم، بل يتشابك في كل نبضة،
ينساب كالماء بين جذور شجرة امتدت في أرضين،
تشتّت يحمل دفء الذكريات، وعبق الحكايات، وحنين القلب.
كنت طفلة صغيرة حينما غادرت الوطن الأول، السودان،
ولم يكن بيدي الرحيل، ولم أعد إليه بإرادتي أيضًا.
لم أكن أفهم معنى الرحيل، لكنني الآن أفهم تمامًا معنى الغياب.
كأن شيئًا نُزع مني دون أن أعيه،
وكأن هناك ذاكرة مبتورة في زاوية قلبي، لا أعرف كيف أكمّلها.
ثم كانت السعودية…
واحة صامتة، لا ترفع صوتها، لكنها تُربّي.
لم تكن فقط المكان الذي كبرت فيه، بل كانت المكان الذي أعاد تشكيل روحي على مهل.
علّمتني التوازن، والسكون، وأهدتني ذائقةً مختلفة،
ذائقة الصمت المنقّى، والحياة التي لا تثرثر لكنها تُشكّلك بخفة.
لم يكن اللعب صاخبًا،
بل كان مشروطًا بلغة الصمت، داخل حدود البيت،
كأن الطفولة نفسها هنا تخجل من أن تكبر بصوت عالٍ.
وكلما سألني أحد: من أين أنتِ؟
أتلعثم…
لأنني أحمل من كل أرض أثرًا، لكن لا وطنًا واضحًا.
في السودان… تركت جذوري الأولى،
وفي السعودية… تبرعمت وتفتحت،
لكنني لا أستطيع أن أقول: هذا وحده وطني.
الانتماء عندي ليس مسألة جغرافيا،
بل مسألة أثر…
أثرُ الواحة في قلبي، لا أثر الحدود على خارطتي.
صرت أفهم الآن…
أن بعضنا أبناء واحات لا أوطان.
نولد في مكان، وننمو في آخر،
لكن الحقيقة تُكتب في أرواحنا، لا في أوراقنا.
ربما أكتب اليوم لأصالح بين الواحتين، بين الطفلة التي نُزعت، والمرأة التي تشكّلت.
أكتب كي لا أعيش ممزقة بين جهتين،
بل موصولة بما بينهما: الذاكرة… والماء… والسكينة.
أعرف أنني لست وحدي في هذه الهوة،
هناك من يمشي بصمت على حافتها،
يبحث عن وطنٍ لا يُسمّى،
يريد أن يضم شظايا ذاكرته المتكسرة،
ويجد له مكانًا في هذه الحياة المتشتتة.
ربما لا أنتمي فقط إلى الأرض التي أنجبتني،
بل إلى الأشياء التي شكلتني بصمتها،
إلى الذكريات التي لم تختفِ رغم البعد،
إلى السكون الذي أحمله بين ضلوعي.
وهكذا، أكتب،
لا لأهرب أو أختفي،
بل لأصنع واحة صغيرة في قلبي،
تكون لي… فقط لي.
اللغة تسكنني، تنسج لي ملاذًا بين ثنايا الحياة،
تُعيد ترتيب الفوضى التي تسكنني، وتُضيء زوايا الغربة بصمت.