لا يُولد الإنسان في السودان خاليًا من المعنى، بل يحمل في دمه وشرايينه سيرة أرض لا تُنسى، وتاريخًا لا يُمحى، ووجعًا لا يتقادم.
من ممالك كوش ومروي القديمة، مرورًا بثورات المدن والقرى، ظلّ الإنسان السوداني يؤمن بأن حريته ليست خيارًا إضافيًا، بل هي قرين الكرامة وشرط الحياة.
ليست المقاومة في السودان فعلًا طارئًا أو قرارًا سياسيًا مؤقتًا، بل هي حالة جينية تتسلل في الروح، وتُعلن عن حضورها كلما اشتد القيد وضاق الأفق.
السودان لم ينهزم قطّ حين توحّد شعبه خلف مظلمة واحدة، بل تنهار أمامه أعتى قلاع الاستبداد حين ينبض قلبه الجمعي، فيتحوّل الأفراد إلى جسد واحد، لا يساوم على الحياة الحرة.
هذه السردية التي نكتبها اليوم، ليست شهادة تاريخية محايدة، بل موقف ووجدان، ورؤية نابعة من رحم الألم والفقد، ومن نبض القرى المحترقة، والمدن التي هجّرتها الحرب، والقلوب التي هجّرتها الخذلان.
هي سردية الإنسان الذي صمد، لا من أجل البقاء، بل من أجل المعنى.
وقد كان للمرأة السودانية دور لا يُمكن إسقاطه، لا من ذاكرة المقاومة ولا من حكايات المجد. كانت، ولا تزال، في مقدمة الصفوف، لا شاهدة فحسب، بل صانعة للحدث وراوية له. من هتافها ودمعتها وصبرها ووعيها، كُتبت فصول كثيرة لم تُروَ بعد.
هذه السردية أيضًا، لم تكتبها النخب وحدها، بل شارك فيها كل من سكب حبرًا، أو رسم لافتة، أو صرخ في الشارع. كانت الكلمة درعًا، وكانت الصورة رصاصة، وكانت الذاكرة ساحة منازلة.
من هنا، فإن ما نحتاجه اليوم ليس مجرد تذكّر، بل إعادة بناء.
نحتاج أن نُدوّن، أن نُخلّد، أن نحفظ هذه السردية من التآكل، من التزوير، من الضياع.
ونحتاج كذلك، أن نربط الماضي بالحاضر، دون تمجيد أجوف، ودون قطيعة مفتعلة.
فمن لا يدرك كيف تشكّل وعيه، لن ينجو من التكرار القاتل، ولن يبني وعيًا جديدًا.
حين نكتب هذه الكلمات، فإننا لا نطرح الأسئلة، بل نحاول تقديم مواقف واضحة، أو على الأقل، دعوة للتوثيق المسؤول:
أن نحمي الوعي الجمعي من العبث.
أن نستعيد لغتنا الأصلية في الحكي، بعيدًا عن الإملاءات والخطابات المستعارة.
أن نُعيد للمثقف دوره كحارس للسرد، لا كمتفرج على انهياره.
فالسودان، حين يروي نفسه، لا يفعل ذلك من موقع الضحية، بل من مقام الشاهد الذي لم يُقصِه القهر، ولا أطفأ صوته الرماد.
وتلك مسؤوليتنا جميعًا.