ليست الكتابة ملاذًا فحسب، بل اختبارًا يوميًّا للقدرة على البقاء دون أن نفقد ما يجعلنا بشرًا.
إنها مواجهة ناعمة مع النفس، مع ذلك الجزء الذي نُخفيه عن الآخرين ونتجنّب النظر إليه طويلاً.
كل سطر أكتبه هو محاولة لفهم صدع أو تضميد ندبة لا تُرى.
وفي لحظة تأمل، مرّ في بالي قول محمود درويش:
"الكتابةُ فعلُ نجاةٍ من نقص اللغة، ومن جرح الحاضر."
أدركت حينها أنني لا أكتب لأُحسن التعبير، بل لأُصغي لداخلي حين يعجز عن الكلام.
أن أكتب، يعني أن أسمح لروحي أن تتنفس خارج جسدي.
الكتابة ليست طريقة للهروب، بل طريقة للنجاة الواعية.
إنها الضوء الخافت في عمق النفق، والإصغاء الطويل لما لا يُقال.
وكأن بول أوستر حين قال: "نكتب لأن الحياة لا تكفينا"، كان يُمسك بيدي.
نعم، الحياة وحدها لا تكفي… لهذا نكتب، كي نُكمل النقص الذي لا يُرمم إلا بالحبر.
في كل مرة أكتب، أشعر أنني أُعيد ترتيب ما بداخلي.
ليس لأنني أمتلك أجوبة، بل لأنني أتحرر من وهم امتلاكها.
تذكرت همنغواي حين وصف ببساطة جارحة:
"كل ما عليك هو الجلوس أمام آلة كاتبة والنزيف."
وقد فعلت… نزفت، لكن بوعي.
نزفت لأن الكتابة لا تُشبه البوح، بل تُشبه التطهّر.
أكتب لأبقى قريبة مني، ولأعيد تعريف الصمت الذي يسكنني.
الكتابة ليست مجرد سرد، بل مسعى لفهم ما لا يُفهم.
وقد لامسني قول أدونيس: "الكتابة ليست اعترافًا، إنها وعي جديد."
نعم… الكتابة ليست فضحًا، بل إعادة تسمية الأشياء،
إعادة الإيمان بها أو الخروج من سلطانها.
ولعل أعظم ما في الكتابة…
أنها تمنحك فرصة أن تلتقي بذاتك دون موعد،
أن تجرّب أن تكون صادقًا بلا شهود،
وأن تكتشف أن في داخلك ما يستحق أن يُروى.
اكتب،
حتى لو لم تكن كاتبًا.
اكتب لتفهم، لا لتُدهش.
اكتب لأنك حيّ…
ولأنك في العمق، إنسان.