(د.رشيد)
كان الدكتور رشيد خضراوي رجلا في أواخر الأربعينات، ذا ملامح حادة، لا يبتسم، وعينين رماديتين كأنهما لم تُخلقا للنظر إلى الواقع. التحق بمستشفى الأمراض العقلية ، قادمًا من باريس، حاملاً معه تجارب رفضتها جميع الهيئات الطبية:
"إثبات قابلية الروح للانفصال، والنقل، والاستبدال."
في البداية، سُمح له فقط بمراقبة الحالات المتقدمة من مرضى الفصام. لكنّه سرعان ما أقنع الإدارة، عبر نفوذه المريب وعلاقاته، بتخصيص جناح خاص "للبحث التطبيقي"، وسرعان ما تحوّل ذلك الجناح إلى منطقة مغلقة، لا يدخلها إلا من يوافق على الصمت الأبدي.
عمل مصطفى حينها مساعدًا شابًا في المستشفى، وكانت جرأته الفكرية قد استهوت الدكتور رشيد، الذي قال له يومًا:
ـ "الدماغ البشري مثل جهاز تسجيل، والمشاعر مثل تيار كهربائي... لكن الروح؟ إنها شفرة. وإن تمكنّا من نسخها... يمكننا إعادة برمجتها."
بدأت التجارب بشيء يسمونه "الانعكاس الموجه". يُطلب من المرضى أن ينظروا إلى مرآة صغيرة تحت ضوء خافت، بعد إعطائهم مركبًا كيميائيًا يدعى "الأثير الرمادي"، من ابتكار رشيد، يُقال إنه يوقف الإشارات العصبية لفترة قصيرة، ويفصل الوعي عن الجسد.
كان مصطفى يدون كل شيء، ويسجل الأصوات، ويلاحظ أن بعض المرضى يتكلمون بأصوات غير أصواتهم، ويصفون أماكن لم يزوروها، وأحداثًا لا يعرفونها. قال أحدهم، وهو ينظر إلى المرآة: ـ "أنا لست هذا… اسمي عمر… كان يجب أن أموت منذ مئة عام."
في إحدى الليالي، أدخل الدكتور رشيد مريضة تدعى "جميلة"، صامتة، لا تتجاوب مع أي علاج. وضع أمامها المرآة، وبدأ يهمس بكلمات لم يفهمها مصطفى، بلغة غريبة. وفجأة، نظرت جميلة في المرآة، وصرخت صرخة كأنها جاءت من بعد سحيق. ثم ابتسمت، وقالت:
ـ "عاد... عاد إليّ وجهي القديم."
توقفت جميلة عن الكلام بعد ذلك، وماتت بعد أسبوع. لكن حين فُحصت، وُجد أن بصمتها الصوتية تغيرت كليًا، وكذلك نمط كهربة دماغها، كأن شيئًا جديدًا قد سكنها.
**
أخفى الدكتور رشيد معظم الأدلة، لكنه أخبر مصطفى أن المشروع اقترب من النجاح. قال له ذات مرة، وهما في القبو أسفل المستشفى القديم:
ـ "سنحتاج إلى وعاءٍ أنقى... شخص لا يزال فتيًا، لكنه يقظ... مرآة لا تنكسر بسهولة."
وقبل أن يختفي بأيام، بدا عليه التوتر، وكأنه يلاحق شيئًا أو يهرب من أحد. قال لمصطفى في رسالته الأخيرة، التي كانت مطوية داخل أحد الدفاتر:
"إن فشلتُ، فاحفظ الصندوق... قد يحملني من جديد. لا تفتحه، إلا إن وجدت مرآة لا ترى فيها نفسك."
---------
(مصطفى)
في أحد أحياء المدينة القديمة، خلف أسوار عالية وحديقة متوحشة الإهمال، كان منزل مصطفى الهاشمي، جد سلمى، يكتنز من الأسرار ما يكفي لزرع الظلال في قلب النهار. لم يكن الناس يمتلكون الجرأة على الاقتراب منه، لا لأن ساكنه كان ساحرًا أو مشعوذًا، بل لأنه كان طبيبًا... من نوعٍ خاص.
كان مصطفى يعمل مساعدًا لطبيب نفسي يدعى الدكتور رشيد، رجلٌ ذو سمعةٍ غريبة بين زملائه في المستشفى العقلي، حيث يُقال إنه آمن بأن "الروح ليست أبدية، بل قابلة للنقل، مثل الذكريات"، وكان يجري تجارب محرّمة على مرضى انفصام الشخصية، ساعيًا لاحتجاز أرواحهم في "أوعية مادية".
أُعجب مصطفى الشاب يومها بأفكار أستاذه، وظلّ يلازمه، يدون ملاحظاته، ويوثّق كل شيء. حتى جاء اليوم الذي اختفى فيه الدكتور رشيد. لم يُعثر له على أثر، سوى ذاك الصندوق العتيق، الذي أخفاه مصطفى في قبو منزله، مغلقًا عليه بالأقفال، وملفوفًا في قماش أسود محكم، وقد كتب عليه بخطه المرتجف:
"لا تفتح... إلا إن كنتَ مستعدًا لأن تفقد نفسك. إلا إذا وجدت مرآة لا ترى فيها نفسك"
بقي الصندوق في القبو، ومرت السنوات. تزوّج وأنجب، ثم صار جدًّا، غير أن ظلال القبو لم تغادره يومًا. لم يكن الصندوق مجرد ذكرى من ماضٍ غريب، بل كان أشبه بندبة داخل روحه، تنبض كلما مرّ بجوار تلك السلالم الحجرية المؤدية إلى الأسفل. لم يجرؤ أحد من أفراد أسرته على الاقتراب من القبو، فقد كان مصطفى يضع مفاتيحه حول عنقه، وينهر كل من تسوّل له الاقتراب قائلاً: "هذا المكان ليس لكم... إنه للغائبين."
وكانت سلمى حفيدته، فتاة متمردة، لها فضول حاد كالسكاكين، تنبش في دفاتر جدّها القديمة وتراقبه كلما هبط الدرج بحذر. كانت تشعر أنّ هناك ما يتنفس في ذلك القبو، شيئًا لا تراه، لكنها تحسّ به، كرجفة تمرّ في العظام. كانت تحلم بالصندوق، رغم أنها لم تره قط، وترى نفسها تفتحه، وتغرق في ظلام كثيف.
في يوم صيفي حار ، توفي مصطفى بهدوء وهو جالس على كرسيه الهزاز، مفاتيح القبو على صدره، كأنها وديعة، أو لعنة تنتظر من يرثها. لم يكن لأبيها ولا لعمّها اهتمامٌ بالقبو، فتركوه مغلقًا كما هو، أما هي، فكانت تعرف أن هناك شيئًا ينتظرها.
وبعد أسبوع على وفاة جدّها، في ليلة مكتومة الرياح، حملت سلمى المصباح اليدوي ونزلت إلى القبو. كانت الرطوبة قد غلّفت الجدران، والغبار يتراقص كأرواح صغيرة في ضوء المصباح. عثرت على الصندوق في الزاوية، مغطّى بالقماش الأسود كما وُصف، والعبارة بخطّ اليد لا تزال واضحة رغم الزمن:
"لا تفتح... إلا إن كنتَ مستعدًا لأن تفقد نفسك."
يدها ارتجفت، لكنها أخرجت المفاتيح، وأدخلتها في الأقفال واحدًا تلو الآخر. ومع كل قفل يُفتح، شعرت وكأن شيئًا يُنتزع من داخلها. وحين فُتح الصندوق أخيرًا، لم يكن فيه سوى مرآة.
مرآة صغيرة، ذات إطار معدني عتيق، مشققة من أحد أطرافها. حدقت فيها، فلم ترَ وجهها. بل رأت رجلاً، واقفًا داخل غرفة بيضاء، بعينين زائغتين وابتسامة واهنة، كان هو... الدكتور رشيد.
سمعته يهمس:
ـ "كنت أعلم أن أحدهم سيأتي... أنني لن أختفي للأبد."
حاولت التراجع، لكنها لم تستطع..
صرخت فى قوة ..
لكن صرختها ضاعت فى الهواء..