لا أجد اسمًا لما قادني إلى ذلك البيت العتيق عند آخر الطريق. لم يكن نداءً صريحًا، بل أشبه بهمهمة صامتة .
البيت... ذاك الذي سكنت فيه أمي قبل أن تغادر فجأة، وتغلق بابها خلفها إلى الأبد.
الغروب كان يختفي فوق الأفق، والظلال تتمطى على الإسفلت ككائنات فقدت أجسادها.
وقفت عند الباب الخشبي المُغبر. كان مواربًا، كما لو أن الزمن أخطأ وأبقى عليه مفتوحًا... أو كأن أحدهم ما زال ينتظرني.
دخلت.
الهواء في الداخل ثقيل، ساكن، كأنه لا ينتمي لهذا العالم. كانت الرائحة مألوفة، لا تنبع من الرطوبة وحدها، بل من شيء أعمق... كأنها بقايا أيام لم تُعش، أو ذكرى لم تجد طريقها إلى الحدوث.
لم أشعل الضوء. لم أحتج إليه. كنت أعرف طريقي جيدًا، كما لو أن خطواتي كانت تسبقني بسنين. الغرفة، تلك التي تطل على الشجرة اليابسة، حيث كانت تنام أمي، كانت تنتظرني.
لكنها لم تكن كما تركناها. الفراش مرتب بعناية، الستائر مرفوعة، وعلى المنضدة شمعة تتوهج في صمت.
توقفت.
تلفّتُّ. لا أحد.
"من هناك؟"
لكني لم أنطق بها. تساءلت بها داخلي، كأن الذات تخاطب ظلها.
لا جواب.
أردت الهرب، لكن قدميّ لم تكونا لي. الخطى التي سُمِعت لم تكن خلفي، بل داخلي... تقترب شيئًا فشيئًا .
هناك، في الصالة، علقت مرآة قديمة على الجدار. نظرت... فلم أجدني.
ولم أُفاجأ.
"أين أنا؟" همست، لكن السؤال لم يكن عن المكان، بل عن المعنى.
فأجابني صوت يشبهني، لكنه ليس لي:
"أنت هنا منذ زمن. دُفِنتَ في اليوم ذاته."
استدرت. لا أحد.
لكني شعرت بشيءٍ يتحرك بداخلي... كهواءٍ يمرّ في جسد بلا رئتين.
الشمعة خمدت. وعلى السرير ظهرت ورقة، بخطّ أعرفه جيدًا.
"لماذا تخاف؟ ألم تُدرك بعد ما حدث؟"
خط أمي. واضح، ساكن، كما كان على رسائلها القديمة.
ارتجفت. لا خوفًا، بل كمن تذكّر.
ومضة. بكاء مكتوم. يد باردة تمسك بي. حفر. تراب. ثم ظلام لا صوت فيه.
لكن... لا أذكر أنني خرجت من هناك.
مددت يديّ أفتش عن هاتفي، عن جيبي، عن أي دليل يشدني إلى الواقع.
لا شيء.
نظرت إلى يديّ... شاحبتان، زجاجيتان، كأنهما انعكاس لضوءٍ نُسي في العدم.
اقتربت من المرآة المعلقة على السلم. كانت فارغة، ثم بدأت ملامح تظهر ببطء. لم يكن وجهي، بل وجه أمي.
حدّقت إليّ بعينين تفيض بالحزن... وبشيء آخر: المعرفة.
همست:
"كنت تقول إنك لا تخاف الموت، لكنك ارتجفت حين غادرت."
تقدمتُ، أردت أن أسألها، لكن صوتها اخترقني:
"لم تحتمل الفقد. قلبك توقّف بعدي بلحظات. دفنونا معًا، كما تمنّيت. لكنك... لم تنتبه."
تراجعت.
لم أسقط.
بل ذُبت.
ذابت ملامحي، ذابت فكرتي عن نفسي، كأن الوعي تأخر في الوصول إلى حقيقته.
نهضت – أو توهمت أنني نهضت – لكن لم أجدني. لا ظل، لا صدى، لا أثر.
البيت كما هو، لكنه بات غريبًا. لا يعرفني.
خرجت أبحث عن باب، عن مخرج، عن حياة تؤمن بوجودي.
فقط جدران طينية متهالكة، تتآكلها الشقوق..
ثوب أبيض يلتف حولي ارتديته عن غير وعي..
صرخت:
"أنا هنا! أنا هنا!"
لكن الأصوات لم تجب. ارتدت إليّ، جوفاء، كأنها تجهل لغتي أو لم تعد تعترف بوجودي.
ومنذ ذلك الحين، أنا هنا..
ولا أحد هنا..ليسمعني..