لم يكن مختار زيدان يتخيل، وهو يطأ الأرض صباحًا بحذائه المشقق، أن يأتي عليه يوم تصبح فيه هذه الحقول التي ورثها عن أبيه وأبيه عن جده، مجرد ورقة على طاولة التفاوض، وأن يتفاوض على ترابها من لا يعرفون كيف تُزرع حبة قمح واحدة. كان الفجر رطبًا ككل صباحات الخريف، والندى على أوراق الذرة يلمع بفتور، بينما خيالات الأبقار المتثاقلة تمر في صمت كما لو أنها تحفظ موعدها مع التعب. رفع رأسه نحو السماء الرمادية وقال: "اللهم إني بلغت، هذه أرضي، لا أبيع ولا أفرّط."
في داخل البيت، كانت الجدة تجلس على الكنبة الخشبية التي لا تغير موضعها منذ ثلاثين عامًا، تهمس لكوب الشاي كما لو كانت تنفث فيه تعويذة. أحيانًا كانت تضحك وحدها، وأحيانًا تبكي دون دموع، لكن أحدًا لم يعد يهتم، فقد اعتادوا أن يعتبروا همهماتها أثرًا من أثر الشيخوخة، إلا مختار الذي كان يرى فيها الذاكرة الوحيدة المتبقية من زمن الشرف، وزمن الأرض التي تُسقى بعرق الرجال لا بمياه القروض.
نادر، ابنه الأكبر، كان في الجهة الأخرى من القرية، يعقد اجتماعًا مع مندوب الشركة العقارية، رجل أنيق بربطة عنق ضيقة وعطر فاحش، لا يعرف شيئًا عن البذور، لكنه يعرف كل شيء عن التملك. عرض عليهم مبلغًا يُشبه الخيال، أرقامًا لم يسمع بها نادر من قبل، وقال له: "أرضكم ذهب خام، وستكونون أوائل من يربح من مشروع المدينة الجديدة." نادر لم يرد، لكنه فكر طويلاً في المدينة، في المقاهي المكيفة، في السيارة الجديدة، في ابنه الذي يمكنه أن يذهب إلى مدرسة لغات لا إلى الفصل الطيني الذي تعلم فيه هو.
حين عاد نادر إلى البيت، دخل في صمت إلى المطبخ حيث كانت ليلى، أخته، تصنع الخبز في صينية النحاس العتيقة، سألت دون أن تنظر إليه: "عرضوا عليك المبلغ؟" قال: "أكثر مما توقعت." رفعت عينيها وحدقت فيه طويلاً: "الذهب الذي يأتي من الحرام لا يُبارَك... هذه الأرض أمنا، تبيع أمك يا نادر؟" ابتلع ريقه وقال بتهكم: "أمنا تؤيدني فى الرأي، وديوننا تأكلنا... المدينة أرحم من تراب لا يسدّ جوعًا." مسحت يديها من الدقيق، نظرت من النافذة، وقالت: "ليتك تعرف ما يمكن أن تصبح عليه لو زرعت بدلا من أن تفرّط."
في مساء اليوم ذاته، اجتمعوا جميعًا حول مائدة العشاء. مختار قال بصوت واضح، موجهًا حديثه للجميع: "أنا مازلت حي، ولن أبيع الأرض ما حييت." ساد صمت ثقيل، حتى الأم، التي عادةً ما تظل على الحياد، قالت هذه المرة: "الأرض ليست لك وحدك يا حاج مختار، نحن نعيش فيها كلنا." سدد إليها نظرة ثقيلة، ثم أطرق رأسه وقال: "أنا من حفرت أول مجرى ماء فيها، عشت تحت شجرة الجميز أكثر مما عشت معكم ، أنا من نام على ترابها أيام المرض، أنا من شربت من بئرها "
رفرف جفنها دون أن ترد.
في الليلة ذاتها، اشتعلت النار في مخزن القمح. هرع الجميع لإخمادها، لكن النيران كانت أسرع. قال الناس إنها شرارة من فرن الطين، لكن مختار رأى شيئًا آخر. في الصباح، دخل إلى المخزن المحترق، وجد أثرًا لقدمين غريبتين في الركن، وعبوة بنزين فارغة تحت الخشب. حين واجه نادر بذلك، أنكر. "كيف تظن بي هذا الظن يا أبي؟!" لكن نظرة مختار لم تتزحزح.
مرت أيام والقرية لا تتحدث إلا عن الحريق، والناس يسألون: من الذي يريد أن يدفع آل زيدان لبيع الأرض؟ البعض قال إن الشركة وراء ذلك، والبعض الآخر قال إن الخلاف داخل البيت قد وصل حد الانفجار. وفي تلك الأيام، كانت الجدة تهمس لنفسها: "قالوا الأرض بور، لكنهم لم يزرعوها، الأرض لا تخون... الناس هم من يخونون."
ظهر رجل غريب في أطراف القرية، يقال إنه محامٍ يبحث عن وثيقة قديمة تخص ملكية الأرض، وقال إنه يعمل لصالح جهة مهتمة بإثبات أن الأرض لم تكن يومًا ملكًا للعائلة. دبّت الريبة، وبدأ مختار يحفر في أوراق أبيه، يخرج العقود القديمة، والصكوك المختومة بالختم الملكي، لكنه لم يجد ما يقطع الشك باليقين. وحدها الجدة عرفت الحقيقة.
حين واجهها مختار، قالت له بهدوء: "أبوك اشترى الأرض من رجل كان يفر من قضية ثأر... الورقة لم تكن أبدًا باسمه، لكنه حفر بئره وزرع نخيله وسقى بيديه. الأرض تحبه وتعرفه، وهذا يكفي." لكن مختار هزّ رأسه وقال: "كلام القلب لا يُسمع في محكمة يا أماه."
وصلت الأخبار إلى المسئولين، وبدأت ترتيبات نزع الملكية بحجة المصلحة العامة. نادر شعر لأول مرة أن البيع كان حلاً أهون من أن تُنتزع الأرض عنوة، أما ليلى، فقررت أن تذهب إلى المدينة وتقدم التماسًا للمحافظة. وقفت هناك، بشالها البسيط وخطابها المرتبك، وسط العشرات من الملفات والمراجعين، وقالت: "نحن لا نملك إلا هذه الأرض، هي بيتنا، ذاكرتنا، ومزرعة الأجداد... إذا أُخذت منا، فلن يبقى لنا شيء."
عادوا في المساء، وكان مختار قد جلس عند جذع الشجرة القديمة، بيده حفنة من التراب. نظر إليها طويلًا، ثم بكى. لم يبكِ حين مات أبوه، ولا حين مرض، ولا حين شقّت الحياة ظهره. لكنه بكى حين شعر أن الأرض التي عاش لها قد أصبحت حكاية على وشك أن تُطوى.
في الصباح، لم يستيقظ. وجدوه مسندًا إلى الجذع، كأنه نائم، ويده لا تزال تقبض على حفنة التراب.